راية السلفيين في بلاد الشام
قبل أيام قليلة، سُئل رئيس أركان الجيوش
الأميركية الجنرال مارتن دمبسي، على هامش ندوة في «معهد الدراسات الإستراتيجية
والدولية في واشنطن»، «ماذا ستقول للمرشد الأعلى في إيران آية الله السيد علي
خامنئي إذا التقيته؟»، فأجاب «سأطرح عليه سؤالا واحداً: ما الذي تأمل تحقيقه؟»،
مضيفاً «أريد أن أعلم ماذا يخبئ المستقبل للمنطقة في اعتقاده. وأريد أن أسمع الجواب
منه شخصياً».
كلام دمبسي الموثق بالصوت والصورة يعكس، في ما
يعكس، تلمساً أميركياً لواقع لم تعد واشنطن تديره بالكامل.
وبما أن سوريا هي «آخر معارك أميركا في الشرق
الأوسط»؛ بحسب تعبير خامنئي، وجب البحث انطلاقاً من الساحة السورية، ومن خط تماس
افتراضي بين إرادات مدمرة تتنازع عند ساحة العباسيين في دمشق.
أمر عمليات ما، طرأ مؤخراً على جدول أعمال
المطالبين بإسقاط الرئيس السوري بشار الأسد.
كانت جميع المؤشرات تذهب نحو تسوية دولية
وإقليمية تضمن «هدنة» في سوريا حتى العام 2014.
حتى أن واشنطن صارت أقرب إلى الاعتراف بثقل إيران
الإقليمي، بحسب ما تفيد اجتماعات مجموعة «5 + 1» في كازاخستان لنقاش الملف النووي
الإيراني، وإن كان تكريس هذا الاعتراف يحتاج إلى وقت، قد لا يكون مُتاحاً عشية
الانتخابات الرئاسية الإيرانية و«الفتنة» التي ستواكبها وفقَاً للحراك والتسريبات
المواكبة للثلاثي رفسنجاني ـ نجاد ـ مشائي.
على الجبهة السورية، كان مفهوماً لكل الأطراف
المعنية أن يكون الاستقرار نسبياً حتى موعد الانتخابات الرئاسية المقبلة، بما أن
طرفاً ثالثاً على الأرض، تتصدره «جبهة النصرة»، قد نأى بنفسه تماماً عن لغة الحوار،
ولا تملك واشنطن ولا غيرها زمام السيطرة عليه.
وهنا نقطة التحول التي ستدفع الولايات المتحدة
وحلفاؤها في الخليج ثمنها. ولن يُخفف من وطأة هذا الثمن سعي البريطانيين إلى إعادة
التوازن عبر نسج خيوط المصلحة الغربية على ظهر الفرس السلفي، لأن التاريخ وسنن
الكون يشهدان باستحالة إبادة أقلية سواء كانت إثنية أو دينية.
ميزان الخسائر المرتقبة
بما أن خامنئي نجح سابقاً في احتواء «الربيع
الإيراني»، وبما أنّ الأسد بات لا يخفي ارتياحه لمسار العمليات العسكرية الموضعية،
قررت واشنطن تحقيق اختراق عند خاصرتي إيران، أي الجبهتين اللبنانية والعراقية، بما
يعيد ترتيب الساحتين في مواجهة نقطة التحول المتمثلة بصعود استثنائي لـ«جبهة
النصرة» في رئة إيران سوريا.
وللخوض في أمر العمليات الطارئ على أجندة
الأميركيين، لا بد من العودة قليلاً إلى الوراء.
كان البنتاغون أول من أكد وقوع الغارة
الإسرائيلية على جمرايا (بالرغم من أن تأكيد اختراق طائرات إسرائيلية للأجواء
السورية ومباغتة رادارات الدفاع الجوي الروسية الصنع أمر يحتاج إلى تدقيق، إذ ان
المقاتلات الإسرائيلية تمتلك القدرة على إصابة الهدف في جمرايا من دون اجتياز
الحدود). وفي كل الأحوال، لم يكن المركز البحثي هو الهدف الذي من أجله تقوم إسرائيل
بهذه العملية، إذ ان التوقيت وشكل الإعلان والموقف الأميركي ورد الفعل الإيراني
تحديداً، تؤشر إلى اختبار يصب في ميزان الأميركيين من خلال إجراء تغيير جذري في
واقع اللعبة. الأرجح أن ما جرى في جمرايا كان اختباراً عملياتياً لتنفيذ عمل أمني
لاحق يرسم ملامحه انتقال الصراع الميداني في سوريا من الاشتباك العسكري إلى التفاوض
بالانتحاريين والسيارات المفخخة؛ وهو تفاوض يتجاوز الخطوط الحمراء في حالة صراع
وجودي كسوريا.
ترتفع «مؤشرات الاندماج» بين الصراعين السوري
والعراقي، في لحظة مجنونة يرقد فيها «المعتدل» جلال الطالباني في المستشفى، ويرزح
النظام المركزي تحت وطأة مصالح المكونات الفئوية والتيارات داخل المذهب
الواحد.
يتماثل المشهدان العراقي والسوري قريباً إلى حد
التكامل؛ ذلك أن الغرب قد رضخ حقيقة إلى واقع بقاء الأسد حتى الانتخابات الرئاسية
المقبلة، لكن البقاء على سدة الرئاسة ما بعد العام 2014 يعني صراحة هزيمة مدوّية
لمحور «الاعتدال» العربي. هزيمة لن تبقى حدودها ضمن إطار الموازين السياسية، بعدما
قرر أهل الخليج النظر طويلاً إلى الهاوية، ومن ينظر إلى الهاوية «فالهاوية تنظر
إليه أيضاً»، كما يقول فردريك نيتشه.
الكلام عن المشهد العراقي يحتاج إلى مطوّلات، قد
لا يُسعف تسارع وتيرة الأحداث لمعالجتها، لكن الساخن فعلاً اليوم هو الصفيح
اللبناني. ولحساب موازين الربح والخسارة عند هذه الجبهة لا بد أيضاً من العودة إلى
الوراء قليلاً.
المتابع لخطاب الأمين العام لـ«حزب الله» السيد
حسن نصر الله، منذ انتهاء حرب تموز في العام 2006، يلحظ تصاعداً سريعاً في ملء
الفجوة في ميزان الردع بين الحزب وإسرائيل. اعتمد الحزب على مرونة تشكيلاته
وتنظيمه، وفقاً لنظرية وضعها قائده العسكري الحاج عماد مغنية، بهدف اختصار الزمن في
عملية التطور تقنياً ولوجستياً أمام عدو يخصص إمكانات ضخمة لدراسة عِبَر
الحرب.
ولأن تركيبة تنظيم يعتمد التكتيك اللاتناظري في
القتال، أشد مرونة من جيش كلاسيكي مهما حاول التكيف مع حرب العصابات، نقلت إسرائيل
ساحة الحرب من جيلها الثالث إلى الجيلين الرابع والخامس. بهذا المعنى، فإن إلهاء
«حزب الله» بالداخل في هذه المرحلة هو أفضل ما يكون بالتوازي مع الدفع بمنسوب
الجنون في سوريا إلى الذروة.
لهذا، كان خطاب نصر الله الأخير والتحذير من أي
عدوان ولو محدوداً، على شاكلة الغارة الإسرائيلية على جمرايا.
وتتعدد وسائل الإلهاء: حركة طيران حربي إسرائيلي
مريبة مستمرة منذ أسابيع، بيانات لـ«الجيش الحر» ضد شخص الأمين العام للحزب،
سيناريوهات هوليوودية عابرة للحدود (قبل أيام قامت مؤسسة استطلاع متطورة مقرها
الإمارات، عبر الانترنت، بإحصاء حول سمعة «حزب الله» عالمياً، وتوزعت الأسئلة
المطروحة حول عملية بلغاريا وموقف الحزب من سوريا ومصداقية السيد نصر الله)، وفتن
متنقلة «صغيرة الحجم» تضع الحزب دائماً في دائرة الدفاع وامتصاص
التوتر...
يعتقد خصوم المقاومة الجُدد في لبنان، والمقصود
هنا «التيارات السلفية» لا «قوى 14 آذار»، أن استفزاز «حزب الله» عبر بيئته من شأنه
تحقيق مكاسب لهم. الغريب أن يركب بعض أقطاب «14 آذار» الموجة بدافع التعويض عن
خسائرهم السياسية المتلاحقة منذ سقوط سعد الحريري عن عرش الحكومة.
والحق يقال إن وليد جنبلاط يكاد يكون السياسي
الوحيد في لبنان الذي يفهم جيداً معنى النجاح في استفزاز «حزب الله» أو حشره في
الزاوية، لا من باب الاختبار والتجربة، بل من خلال وزن المعطيات السياسية للمشهد
الإقليمي جيداً. صحيحٌ أن التيارات الأصولية في سوريا تلقى دعم بريطانيا وفرنسا
ودول عربية، ولكنها في الوقت نفسه تصنع من نفسها كبش فداء لصراع أبعد من خط التماس
«الفارسي ـ الخليجي» أو «السني ـ الشيعي».
هل يعلم هؤلاء أن البريطانيين يتحدثون منذ بدء
الأزمة في سوريا، ومن باب كسب الوقت لتأمين إمدادات الطاقة شرقي المتوسط، عن بقاء
الأسد حتى العام 2014 بالحد الأدنى؟
ثم إن جُملة معطيات ثابتة تجعل من الراية السلفية
الخاسر الأكبر، كيفما سارت الأمور في المنطقة، أبرزها:
ـ إن الأهم بالنسبة إلى إسرائيل حتى اللحظة هو
إيران لا سوريا. وبالتالي فإن أي تسوية دولية بين القوى العُظمى حول سوريا لن
تتوانى عن التضحية بمن يقف في وجهها.
ـ إن الصعود السلفي في لبنان ذريعته الأساسية
مواجهة «حزب الله». لا يضير «حزب الله» أن يُخاصمه أحد في السياسة، لكن المشكلة هي
في سلوك أساليب «غير سلمية». في سيناريو كهذا، لا يمتلك أي تنظيم سلفي القدرة
والحنكة اللازمة. تجربة نهر البارد في مواجهة الجيش اللبناني ماثلة في الأذهان،
علماً أن دراسة العقيدة القتالية للتيارات السلفية أمرٌ بات مُيسراً على ضوء الأزمة
السورية.
ـ تشير دراسات المعارك المفصلية في سوريا إلى أنه
في أفضل الأحوال، ستكون «جبهة النصرة» قوية في الأطراف وضعيفة في دمشق وضواحيها
والمناطق المحصنة، من دون الخوض في مدى القدرة الحقيقية للتيارات السلفية في فرض
حُكم ديني متشدد في مناطق نفوذها، ومدى تقبل السوريين لهذا الوضع.
الأكيد حتى الساعة، أن معركة سوريا طويلة الأمد،
لكن النظام لن يسقط. وفي انتظار الجولة الجديدة من المفاوضات الدولية مع إيران
وتبلور التسوية حول الملف السوري، تدخل بلاد الشام مرحلة طويلة من
الفوضى.
ملاحظة أخيرة: تمتلك كازاخستان تجربة رائدة في
استيعاب التيارات السلفية. اعتمدت التجربة في هذا البلد على أدوات ناعمة في البيئة
الحاضنة: رجال دين شعبيين، منظمات غير حكومية ومشاريع تنموية ووسائل إعلام موجهة.
كان الأجدى بالنظامين في سوريا ولبنان الالتفات إلى هذه الأدوات باكراً. ولئن كان
الأوان قد فات في سوريا على إجراء مراجعة إصلاحية، ذلك أنه سواء بقي الرئيس الأسد
أو رحل فإن التيار المتشدد هناك لن يرضخ لسلطة أي دولة،
0 comments: