المرصد السياسي 2865
هل تنقلب الديناميات الشيعية في العراق ولبنان ضد إيران؟
5 تشرين الأول/أكتوبر 2017
على الرغم من النفوذ القوي الذي يتمتع به «حزب الله» في لبنان، تتطلع نسبة كبيرة من المجتمع الشيعي في تلك البلاد إلى مدينة النجف المقدسة في العراق للتوجيه الديني والقيادة. وعلى الرغم من عدم تدخل النجف في الشؤون السياسية اللبنانية كما تفعل إيران، إلا أنّ المؤسسات الشيعية في المدينة كانت ذات مرة المرجع الديني -- والاجتماعي أيضاً -- الوحيد للمجتمع الشيعي في لبنان. وعلى مر السنين، استخدم «حزب الله» نفوذه لإعادة توجيه عدد كبير من الشيعة نحو المرشد الأعلى من أجل التوجيه والإرشاد، ولكن تأثير النجف ظل قائماً. وكان لعدد من الشخصيات الدينية اللبنانية البارزة، على غرار محمد مهدي شمس الدين ومحمد حسين فضل الله وهاني فحص، روابط وثيقة مع النجف، وما زال لإرثهم ومؤسساتهم المتأثرة بالعراق تأثير كبير على المشهد الشيعي في لبنان.
ولم تستغل الولايات المتحدة وغيرها من الجهات الفاعلة الخارجية هذا الارتباط العراقي مطلقاً بصورة كاملة لدى البحث عن مساعدة لبنان والحد من النفوذ الإيراني فيه. إلا أنّ التطورات السياسية الجديدة في العراق قد توفّر لها فرصةً ذهبية للقيام بذلك.
هل ترفع النجف صوتها؟
منذ عام 2003، تجنّب الزعيم الشيعي العراقي آية الله العظمى علي السيستاني إلى حد كبير اتخاذ أي موقف بشأن السياسة المحلية أو اللبنانية، وفضّل التمسك بالقضايا الدينية والاجتماعية. بيد أنّه قام باستثناء ملحوظ في عام 2006، بعد انتهاء حرب تموز/يوليو التي اندلعت بين لبنان وإسرائيل، عندما كان «حزب الله» يواجه ضغوطاً للتخلي عن سلاحه. وفي ذلك الحين، دعا السيستاني رجال الدين اللبنانيين إلى الإذعان إلى الفتوى التي أصدرها حول الامتناع عن دخول المجال السياسي، في خطوةٍ فسّرها الكثيرون على الأرجح بأنها إنذارٌ لكل من «حزب الله» وإيران. كما قال إنه يتعين على الشيعة في لبنان تقرير مصيرهم بأنفسهم من دون الخضوع لإيران.
ووافقت «حركة أمل» -- شريكة «حزب الله» المترددة في التحالف -- علناً مع وجهة نظر السيستاني، وغيره من القادة الشيعة المستقلين أو المناهضين لـ«حزب الله». إلّا أنّه بشكلٍ عام، يرى هؤلاء القادة أنّ عدم فعاليتهم في تحفيز التغيير في لبنان هو على الأقل متأصل جزئياً، في استراتيجية "إرفع يديك" التي تعتمدها النجف في الأوقات المصيرية، ومنها "ثورة الأرز" في عام 2005 وأحداث 7 أيار/مايو 2008. لكنّ استعداد النجف إلى دخول الحلبة قد يتغيّر قبل الانتخابات البرلمانية العراقية عام 2018.
وتريد إيران من الأحزاب الشيعية العراقية أن تخوض المعركة الانتخابية كفريقٍ واحد تحت راية "التحالف الوطني"، وهو ائتلاف من المتوقع أن يسمّي زعيمه الجديد قريباً، وفقاً لبعض التقارير. وفي الشهر الماضي، وعقب سلسلةٍ من الزيارات الرسمية العراقية إلى المملكة العربية السعودية، أوفدت طهران رئيس "مجمع تشخيص مصلحة النظام" آية الله محمود الهاشمي الشاهرودي إلى بغداد. وكانت تلك الزيارة المفاجئة أكثر من مجرد فرصة لإيصال المخاوف الإيرانية بشأن التدخل السياسي السعودي المفترض، كما أراد الشاهرودي لقاء القادة الشيعة في محاولةٍ لتوحيدهم قبل موعد الانتخابات. وقد التقى بالفعل مع عدد من هؤلاء، بينهم رئيس الوزراء حيدر العبادي وزعيم "حزب الدعوة الإسلامية" نوري المالكي وعمّار الحكيم، الذي انشق مؤخراً عن "المجلس الأعلى الإسلامي العراقي" المدعوم من إيران ليترأس "تيار الحكمة الوطني" الجديد.
إلّا أنّ الشاهرودي لم يكن موضع ترحيب في النجف، ولم يتمكن من ترتيب لقاءات مع أي من السلطات الدينية الأربع الكبرى فيها. كما رفض رجل الدين الشيعي مقتدى الصدر اللقاء معه.
ومن بين العقبات الأخرى التي تواجهها طهران في مخططاتها السياسية في العراق موجة المشاعر المعادية لإيران التي أعقبت اتفاق «حزب الله» الأخير مع قوات تنظيم «الدولة الإسلامية» في سوريا. ففي آب/أغسطس، تم السماح لـ308 مقاتلين من تنظيم «الدولة الإسلامية» وعائلاتهم بإخلاء منطقة القلمون على طول الحدود اللبنانية-السورية والتوجه إلى بلدة أبو كمال بالقرب من الحدود العراقية-السورية. وتم تنفيذ العملية باستخدام حافلات وسيارات إسعاف أرسلها نظام الأسد بالتعاون مع «حزب الله». وأثار هذا القرار غضب العبادي والعديد من الشخصيات السياسية الشيعية والناشطين في العراق، إذ اعتبروا أنّ هذا الاتفاق يشكل خطراً على العراق ويهين شعبه. وطال هذا التوتر الشيعة في لبنان أيضاً، ومن بينهم أنصار «حزب الله»، إذ انتقد بعضهم الحزب بشدّة على إبرام هذا الاتفاق مع تنظيم «الدولة الإسلامية». وأدّى ذلك بدوره إلى حوارٍ غير عادي على مواقع التواصل الاجتماعي بين الشيعة العراقيين واللبنانيين.
لذلك، وفي حين أن إيران واثقة تماماً من قدرتها على التأثير على الانتخابات البرلمانية في لبنان في أيار/مايو 2018، قد يشكل فرض إرادتها في انتخابات نيسان/أبريل 2018 في العراق تحدياً أكبر. وقد تغيّر خطاب السيستاني في الآونة الأخيرة، في حين أعرب كل من العبادي والصدر والحكيم عن اهتمامهم بإبعاد بلادهم عن إيران والتشديد على الهوية الوطنية العراقية عوضاً عن الهوية الشيعية في حملاتهم الانتخابية. ومن الواضح أن النجف تشاركهم هذا الرأي وستدعم على الأرجح أي تحالف شيعي يسلك طريق القومية العراقية.
الاختلافات بين الشيعة العراقيين واللبنانيين
بالمقارنة مع نظرائهم اللبنانيين، يبدو أن الشيعة العراقيين أكثر استعداداً وقدرةً على الوقوف في وجه إيران. وقد يعود ذلك جزئياً إلى الوجود القوي للمؤسسات الدينية الرئيسية في النجف وكربلاء، وهي المدينة التي تحمل التاريخ الجماعي للطائفة الشيعية. بالإضافة إلى ذلك، لا يزال الشيعة في العراق ينظرون إلى بلدهم على أنه مزدهر ومستقل، على الرغم من جميع الصعوبات التي يواجهونها. أما الشيعة في لبنان، فقد عجزوا عن بناء هوية وطنية خاصة بهم، فجمعوا أنفسهم بالفلسطينيين والسوريين والآن الإيرانيين لحماية أنفسهم من التهميش والظلم. وحتى الفصائل التي تعارض بنشاط «حزب الله» قدّمت نفسها أساساً كبديلٍ شيعي وليس لبناني.
ومن أجل تعزيز بديل لـ «حزب الله» قادر على الاستمرار، ثابر المجتمع الدولي في العمل مع هذه الفصائل داخل لبنان من خلال استثمار أموال طائلة في المشاريع التنموية والاجتماعية والسياسية التي انتقدت الحزب علناً وراعيه الإيراني. ولكن حتى وقت قريب جداً، لم يكن الشيعة في لبنان يبحثون بجدية عن بديل سياسي. فكان معظمهم راضٍ بخطاب "المقاومة" الذي يعتمده «حزب الله» والسلطة السياسية الذي أمّنها له، إذ يعتبرون الحزب سلطةً مقبولة وفّرت الخدمات الاجتماعية للشيعة المحتاجين. وفي المقابل، كان المانحون الأجانب يموّلون الكثير من الشخصيات التي لم يكن يراها المجتمع الشيعي ذات مصداقية أو كونها موثوقة، وبدا أنّه لم يكن هناك استراتيجية حقيقية لتعزيز الآليات التي من شأنها أن تمنح الشيعة مكانةً جيدة في المجتمع المدني اللبناني.
وعلى نطاقٍ أوسع، فشلت المبادرات المناهضة لـ «حزب الله» لأنها حاولت الاستعاضة عن جماعة شيعية بأخرى عوضاً عن الدفع بمنصةٍ لبنانية قومية. وكان ذلك خطأً قد لا يكون الشيعة في العراق قادرين على تجنبه بعد مشاهدة إيران تنتفع من التفكك الطائفي في المنطقة على مر السنوات.
وبالفعل، مع اعتناق المزيد من الجماعات المدنية الشيعية في العراق هويتها القومية، قد يفكر بعض قادتها -- وخاصة العبادي والصدر والحكيم -- في تحالفٍ سياسي بديل. وعلى الرغم من خلافاتهم ونقاط ضعفهم، قد يرى شيعة العراق هؤلاء القادة كخيارٍ أفضل من المالكي و«وحدات الحشد الشعبي» المدعومة من إيران، التي غالباً ما ارتبط اسمها بالفساد والعنف والطائفية. وعلى الرغم من أنّه قد يكون من الصعب جداً على هؤلاء الرجال أن يكونوا على توافق تام ويفوزوا بالانتخابات فعلاً، إلا أن دعم مثل هذه الحركة قد يكون الرهان الأفضل بالنسبة لواشنطن وحلفائها نظراً إلى افتقادهم المستمر لاستراتيجية طويلة الأمد لمواجهة إيران في المنطقة.
وسوف يعتمد مستقبل النفوذ الإيراني في العراق على نتائج انتخابات العام المقبل. وإذا لم يفز المرشحون المفضلون لإيران ككتلةٍ مهيمنة، سوف تشعر طهران بالتداعيات في لبنان كما في العراق. وبناء على ذلك، يتعين على المجتمع الدولي النظر في عددٍ من الخطوات في الأشهر المقبلة وهي: تشجيع تحالف سياسي عراقي قادر على تحدي المرشحين المدعومين من إيران، وتمكين العبادي ومؤسسات الدولة، وتشجيع النجف على فرض نفسها على الساحة السياسية، والدعوة إلى المزيد من التعاون بين مختلف الطوائف. وإذا بقيت الأحزاب الشيعية منفصلة أو تحالفت مع الكتل السنية أو الكردية أو العلمانية لتشكيل حكومة عابرة للطوائف (فكرة يدرسها كل من العبادي والصدر)، فإنها قد تعزز التعاون بين الولايات المتحدة والعراق وتثير نقاشات حول مصير «وحدات الحشد الشعبي» وتزيد من التحديات أمام إيران بشكلٍ عام.
أمّا احتمال التأثير على الانتخابات اللبنانية بشكلٍ إيجابي فضئيلة أكثر بكثير، ولكن على المجتمع الدولي ألا يقطع الاتصال مع الشيعة المستقلين فيه نظراً لاستعداد النجف المحتمل لحثّهم على التحرك في المستقبل. وقد لا يعود قائد «حركة أمل» نبيه بري لولايةٍ جديدة كرئيسٍ لمجلس النواب، لذا فمن الضروري أن يركز التواصل الأجنبي على بناء شركاء جدد - خاصة أولئك الذين يعتقدون أن الفجوة بين «حركة أمل» و «حزب الله» تنمو بسبب الحرب السورية والنفوذ الإيراني المتزايد. ولا يزال «حزب الله» الخيار الحقيقي الوحيد بالنسبة للشيعة اللبنانيين في الوقت الراهن، ولكن قد لا يكون الأمر كذلك إلى أجل غير مسمى إذا عززت السلطات الشيعية المحترمة في النجف وخارجها الضغوط التي تمارسها على إيران ووكلائها الإقليميين.
حنين غدار، صحفية وباحثة لبنانية مخضرمة، وزميلة زائرة في زمالة "فريدمان" في معهد واشنطن.
0 comments: