كيف تحكم «بنوك الظل» العالم؟ دير شبيغل الألمانية
بعيداً عن منال المنظمين...نما في ظلال عالم المصارف عالم مواز يتألف من «بنوك الظل» على شكل صناديق التحوط وصناديق أسواق المال. لا تندرج هذه البنوك في نطاق النظام المالي التقليدي، ما دفع السلطات إلى التخطيط لوضع قواعد جديدة لمنع هذا القطاع الغامض من التسبب في أزمة مالية جديدة. لكن من خلال القيام بذلك، تخاطر السلطات، بحسب «شبيغل»، بتجفيف مصدر مهم من مصادر تمويل البنوك والشركات.
في العالم المالي فجوة ضيقة بين الجنة والنار. أدرك الفرنسي لويك فيري هذه الحقيقة في 33 من عمره. كان نجمًا صاعدًا في عالم الخدمات المصرفية، يدير التبادلات التجارية في برامج القروض المعقدة في أحد بنوك الاستثمار. وفقًا لبطاقة عمله، كان«الرئيس العام لأسواق الائتمان» في المصرف. لكن في ذلك الحين، راهن أحد موظفيه بـ317 مليون دولار، وفجأة فقد فيري وظيفته.
كان ذلك في عام 2007. شهد عدد من المصرفيين الاستثماريين انخفاضًا حادًا مماثلاً في السنوات المضطربة من الأزمة المالية. لكن، مثل فيري، عاد كثر إلى الظهور وأصبحوا أكثر نجاحًا من أي وقت مضى، في عالم يسمى عالم «بنوك الظل»: شركات تعمل في مجال الأعمال التجارية تمامًا كالبنوك العادية، لكن من دون أن تكون خاضعة للتنظيم الصارم نفسه.
أطلق فيري صندوق تحوط في لندن. تجمع هذه الشركات الاستثمارية سيئة السمعة المال من الزبائن وتضارب على مجموعة واسعة من الأوراق المالية. يعتمد فيري اليوم على أنواع استثمارات تشكل مخاطرة كبيرة جدًا لزملائه السابقين. يقرض مال زبائنه لشركات لا تتمتع بأهلية ائتمانية كافية تأهلها للحصول على قروض من البنوك العادية، ويشتري أيضاً برامج القروض المحفوفة بالمخاطر من المقرضين. نتيجة لذلك، يحق�'ِق عائدات بمعدل عشري في خضم الأزمة.
لكن الفرنسي، الذي أصبح ناجحًا لدرجة أنه تمكن من شراء نادٍ لكرة القدم من الدرجة الأولى (لوريان)، يصر على أن الشركات المشابهة لشركته تحقق «مساهمة إيجابية في الاقتصاد الحقيقي»، لأنها تعالج المخاطر بشكل مهني.
قلق متزايد
لكن البنوك، والمنظمين والسياسيين والاقتصاديين قلقون من العالم الموازي الذي تطور في ظلال عالم المصارف الكبرى. حتى تاريخ الأزمة المالية التي حدثت في عام 2007، نمت «بنوك الظل» بوتيرة مماثلة لتلك التي نمت فيها المؤسسات المالية العادية. في الواقع، استفادت صناديق التحوط، ووحدات الأغراض الخاصة وصناديق سوق المال من انخفاض أسعار الفائدة التي قدمتها البنوك المركزية. ولجأت البنوك بشكل متزايد إلى الشركات الخارجية لإدارة جميع الصفقات التي كانت تشكل مخاطرة كبيرة جدًا بالنسبة إليها، كي لا تظهر على دفاترها. بهذه الطريقة، تعاونت بنوك الظل والبنوك العادية لبناء قلعة في الهواء المكون من القروض.
في غضون بضع سنوات، نما حجم المعاملات المالية في عالم بنوك الظل من 27 إلى 60 تريليون دولار اليوم. وأخيرًا يريد المنظمون اتخاذ إجراءات صارمة ووضع إطار تنظيمي كان غيابه حتى الآن واضحًا في هذا القطاع.
بعد الأزمة المالية التي وقعت في عام 2008، قالت المستشارة الألمانية أنجيلا ميركل، التي تنتمي إلى الاتحاد الديمقراطي المسيحي، إنه لا يمكن أن تتواجد «بقع عمياء» على خارطة تنظيم الأسواق المالية. لكن في حين تم تمرير المزيد من القوانين للسيطرة على البنوك، كان تنظيم «بنوك الظل» ما زال في بدايته.
في الواقع، كان الرجل الذي من المفترض أن يحدث التغيير اللازم يعمل في أحد المكاتب بعيدًا عن المراكز المالية الرئيسة. عندما فكر سفين أندرسون في كيفية التوجه بأفضل طريقة نحو تطويع أسياد المال الوحوش، رأى الغابة السوداء من خلال نافذة مكتبه. هذا النرويجي المتزن الفكر هو الأمين العام لـ{مجلس الاستقرار المالي» في بنك التسويات الدولية في بازل في سويسرا، والمعروف أنه أب البنوك المركزية على مستوى العالم.
يسعى مجلس الاستقرار المالي إلى تجنب تكرار الكوارث المشابهة لأزمة عام 2008.يقول أندرسون: «على مدى سنوات، لم تكترث الحكومات والهيئات التنظيمية كفاية بالمؤسسات المالية الخارجة عن عالم الأعمال المصرفية». واليوم، يريد المجلس أن يحقق النظام في عالم «بنوك الظل» الفوضوي، لكنها عملية بطيئة فعلاً.
قلة المعلومات تنتج معضلة
قدم أندرسون وزملاؤه مقترحاتهم للقوانين الجديدة التي يأملون بأن تسن في جميع أنحاء العالم. لكن بعد ذلك ستبدأ المناقشات السياسية مجدداً، وستستمر على الأقل حتى سبتمبر 2013 قبل تطبيق القواعد الجديدة.
راهنًا، تتوافر معلومات قليلة عن شركات الظل الكثيرة. وبما أنها بقيت غير منظمة إلى حد كبير لفترة طويلة، ما من وكالة حكومية يمكنها تنظيمها لتوفير المعلومات. يقول أندرسون: «إنها مسألة تستعصي على الحل، لأن الحل هو المشكلة. فبدون تنظيم لا يمكن الحصول على أي بيانات، ومن دون بيانات لا يمكن القيام بأي تنظيم».
حتى إن مسألة تحديد المسؤول عن عملية جمع البيانات في المستقبل أثارت النزاع بين السياسيين والمنظمين. فليس من السهل جمع آراء من الدول العشرين التي تجري حكوماتها اجتماعات منتظمة في قمم مجموعة العشرين حول أبرز الاقتصادات الصناعية والناشئة. لذلك، للسيطرة على هذه المشكلة الضخمة، جمع موظفو مجلس الاستقرار المالي «خارطة عالم بنوك الظل».
تم تحديد 50 نوعًا مختلفًا من الشركات، ويعتزم الآن مجلس الاستقرار المالي التركيز على ما يقارب 10 من الأنواع الأكثر شيوعًا. ويظن المنظمون أن هذه الشركات وحدها تملك أوراقًا مالية بقيمة 20 تريليون دولار.
لكن كلما زادت البحوث تفصيلاً تفاقمت صعوبتها. مثلاً، دعت هيئة الرقابة المالية الاتحادية الألمانية إلى حصر عمليات التوثيق والتنظيم الواسعة لصناديق التحوط في بريطانيا العظمى والولايات المتحدة فحسب؛ وليس هذا بالأمر المستغرب، نظرًا إلى أن الكثير من مقرات هذه الصناديق يقع في لندن ونيويورك. والآن لن يخضع سوى صناديق التحوط التي تساهم في المعاملات الائتمانية الحقيقية لمزيد من التدقيق في المستقبل، وهي المجموعة التي تشكل أقل من ثلث هذه الصناعة.
من المحتمل أن تشمل هذه الطريقة أعمال مدير صندوق التحوط فيري، فهذا الرجل الفرنسي يرفض بشدة وصفه بأنه مقامر متهور.
منافع
على عكس غيرها من صناديق التحوط، يقول فيري إنه يعمل من دون الائتمان الخارجي، ويفسر: «إذا فقدنا المال ستتأثر فحسب سمعتي كمدير، والمستثمرون يعرفون المخاطر التي نتخذها».
حتى المنظم يعترف بأن برامج القروض الأكثر خطورة، التي يشتريها فيري من البنوك، من بين أمور أخرى، تدار بشكل أفضل في صناديق التحوط، لأنه لا يتم تعريض ودائع عملاء البنوك إلى الخطر. «تلك هي الجوانب الحسنة لنظام صيرفة الظل»، بحسب فيري الذي يعتقد أيضًا أن الشركات الصغيرة والمتوسطة خصوصاً تعتمد على خدماته بسبب الأزمة المصرفية التي أجبرتها على «الكفاح لأجل التمويل».
باستخدام حجج مماثلة، استطاعت جماعات الضغط من مناطق مالية أخرى الحفاظ على عملائها إلى حد كبير. مثلاً، لم يتعامل مجلس الاستقرار المالي مع ما تسمى «شركات الأسهم الخاصة» كأنها «بنوك الظل» حتى الان. تتمثل أعمالها الكلاسيكية في اقتراض المال من البنوك والسيطرة على الشركات، ومن ثم إثقال تلك الشركات بالدين.
لا يهدد ذلك استقرار النظام المالي بأكمله. لكن العمالقة مثل مجموعة «بلاكستون»، التي أسسها الملياردير ستيفن شوارزمان، تحولت منذ فترة طويلة إلى شركات إدارة الأصول، التي تستثمر في كل ما هو متاح تقريبًا في الأسواق المالية.يفضل بول شوت ستيفنز أيضًا الحفاظ على عملائه بعيدًا عن تدقيق السلطات التنظيمية. هذا الرجل الخمسيني المتحدر من عائلة من الجزارين من جنوب غرب ولاية بادن فورتمبيرغ هو الممثل الأعلى لهذه الصناعة القوية بقدر ما هي غامضة. إنه رئيس معهد شركات الاستثمار، التي تمثل صناديق أسواق المال.
تجمع الصناديق الأموال من المستثمرين المحافظين، بما فيها صناديق التقاعد، شركات التأمين، والمدخرون العاديون. يتم إقراض هذه الأموال لفترات قصيرة جدًا (أسابيع أو أشهر على الأكثر) إلى البلديات أو البنوك أو الشركات. يأخذ الإقراض شكل شراء السندات القصيرة الأجل.يقع مقر قيادة معظم صناديق أسواق المال، التي تتحكم بما يقارب خمسة تريليون دولار في رأس المال الاستثماري في الولايات المتحدة. في عام 2008، ارتعب المنظمون والسياسيون عندما بادرت إحدى الشركات، الصندوق الابتدائي الاحتياطي الذي تبلغ قيمته 62 مليار دولار، إلى شراء كميات كبيرة من سندات الدين قصيرة الأجل من بنك «ليمان براذرز». بعدما أفلس بنك الاستثمار، أجبر الصندوق على التصفية.
جاء ذلك بمثابة صدمة للعملاء في الصناعة، لأن صناديق أسواق المال لطالما اعتبرت كاستثمار آمن، تحديدًا لأنها، على السطح، غالبًا ما تكون مشابهة جدًا للبنوك. حتى إنها أصدرت بطاقات ائتمان ودفاتر الشيكات في الولايات المتحدة.عندما أصبح واضحًا أن الأمن مجرد وهم، حدث أكثر ما يخشاه المنظمون في العالم المالي: أصيب المستثمرون في حالة من الذعر وأفرغوا حساباتهم. فاضطرت الحكومة إلى إصدار ضمانات لصناديق أسواق المال. وإلا لكان من المحتمل جدًا أن تكون قد تسببت بالزلزال المالي العالمي التالي، ذلك لأن هذه الصناعة هي ممول البنوك الرئيس، بما فيها البنوك الأوروبية.أدخلت صناديق أسواق المال الأميركية العالم المالي في أزمة جديدة في عام 2011، عندما سحبت مليارات اليوروهات من البنوك الفرنسية التي أصبحت موضع مضاربات في أزمة اليورو. هذه المرة جاءت البنوك العالمية المركزية بالانقاذ، وأمنت للبنوك حقنًا جديدة من الدولارات. كانت البنوك الفرنسية خصوصاً تعتمد على التدفق المستمر لرأس المال القصير الأجل من صناديق أسواق المال. في حالات كثيرة، كانت البنوك تعود وتقرض المال لأغراض طويلة المدى، مثل عقود إيجار الطائرات.
في هذا الإطار، يريد المنظم أندرسون أن يضع حدًا لمثل هذه الأحداث، ويقول: «إذا واجهت صناديق أسواق المال المشاكل، تنقل المخاطر على الفور إلى البنوك والعكس صحيح».
تكثر المقترحات لاعتماد ضوابط أكثر صرامة. ومنذ عام 2010، أجبرت صناديق أسواق المال الأميركية على الأقل على الكشف عن مزيد من التفاصيل حول الأماكن التي تستثمر فيها. ويُطلب منها أيضًا الحصول على مزيد من احتياطيات النقد، في حال أرادت أعداد كبيرة من الزبائن فجأة سحب ودائعها.
صناديق أسواق المال ضرورية
يتمثل الجانب الجنوني في احتمال أن تؤدي جهود الأمين العام لمجلس الاستقرار المالي سفين أندرسون إلى عكس ما يرغب في تحقيقه. فبسبب انخفاض أسعار الفائدة في أسواق السندات التي تستثمر فيها صناديق أسواق المال، انخفضت هوامش الربح للغاية. يقول ممثل الصناعة ستيفنز بشكل قاطع: «الأعمال ليست مربحة راهناً». قد تكلف القواعد الأكثر صرامة المزيد من المال، ويتوقع ستيفنز أن يتوقف الكثير من مديري الصناديق عن العمل بشكل دائم.
يشكل هذا الواقع أيضًا سيناريو كابوس لأنه يعني أن الأمر لا يقتصر على كثير من البنوك، بل يطاول الشركات وعدداً من البلديات في الولايات المتحدة التي ستفقد مصدرًا مهمًا من مصادر التمويل. فصناديق أسواق المال تشتري ثلثي سندات الدين قصيرة الأجل التي تصدرها البلديات الأميركية. بالتالي، الشركات التي تحتاج إلى أموال جديدة لتشغيل عملياتها اليومية بانتظام تلجأ أيضًا إلى مقرضي الظل في القطاع المالي.تقول أليس جو من غرفة التجارة الأميركية: «سيتحول العالم إلى مكان مظلم للغاية من دون صناديق أسواق المال»، ذلك لأن شركات كثيرة تحتاج إلى الملايين بين ليلة وضحاها. وكل ما يتطلبه الأمر الاتصال في الصباح بالتاجر الصحيح، «وستحصل على المال في حسابها بعد ظهر ذلك اليوم». أما العملية نفسها فستستغرق ثلاثة أيام مع البنوك.
حتى العمالقة مثل مجموعة EADS (شركة الفضاء والدفاع الجوي الأوروبية) غالبًا ما تعتمد على الأموال القصيرة الأجل لأن إنتاج الطائرات أمر مكلف. إذا حدث خطأ ما في سلسلة الإنتاج، يحتاج المديرون الماليون في المجموعة إلى الحصول على قروض عملاقة قصيرة الأجل في غضون ساعات. وعندما أصدرت الشركة 300 مليون يورو كسندات جديدة قبل بضعة أسابيع، «تم تصديرها في غضون 15 دقيقة»، بحسب يورغ ويبر، الذي يتولى مسألة التعامل مع صناديق أسواق المال في الشركة. ليس في مصلحة المنظمين أن تنهار صناعة مماثلة وبهذه الأهمية، بحسب ستيفنز.بسبب المخاوف السائدة من هذا القبيل، من المرجح أن يستمر عالم «بنوك الظل» في النمو. وكلما أصبحت أنظمة البنوك العادية أكثر صرامة، ازدادت هجرة الأموال إلى الأجزاء غير المنظمة من العالم المالي. ويتخوف الأمين العام لمجلس الاستقرار المالي أندرسون من أن ينسى المستثمرون قريبًا العواقب المحتملة من الصفقات التي يقيمونها مع «بنوك الظل» والمحفوفة بالمخاطر. «وإذا لم يتم تطبيق الأنظمة في ذلك الوقت، سنواجه أزمة أشبه بما حدث في عام 2008.
0 comments: