Thursday, January 5, 2017

تحليل استخباراتي - المنطق الاستراتيجي لهجوم ليلة رأس السنة في إسطنبول

تحليل استخباراتي - المنطق الاستراتيجي لهجوم ليلة رأس السنة في إسطنبول

clip_image002

 

في ليلة رأس السنة، ضربت «الدولة الإسلامية» في تركيا من جديد، في هجوم خلّف نحو 40 قتيلا وإصابة العديد من الأشخاص الذين كانوا يحتفلون في ملهىً ليلي فخم بإسطنبول. وللأسف، لم يكن هذا الهجوم الأول من نوعه، ولن يكون الأخير.

وتعدّ تركيا هدفًا رئيسيًا لتنظيم الدولة لسببين رئيسيين. الأول له علاقة باللوجيستيات والجغرافيا. فمن الأسهل لـ للتنظيم إطلاق الهجمات على تركيا بدلًا من أوروبا والولايات المتّحدة. وتشترك تركيا في حدود مع سوريا بطول 500 ميل غير محدّدة السيطرة لأعوام، وقد استوعبت بالفعل ملايين اللاجئين من الحرب الأهلية السورية. وفي الواقع، ظل تنظيم الدولة مسيطرا على المعابر الحدودية مع تركيا حتّى قبل عدّة أشهر. وسيكون من المنطقي أن نعتقد أنّ التنظيم زرع عددًا من خلاياها النائمة في تركيا، لجذب آلاف المقاتلين الأتراك المحتملين. والثاني، إطلاق تركيا لعملية درع الفرات في سوريا في أغسطس/ آب، وهي الآن الدولة الوحيدة بجانب سوريا والعراق التي ضد التنظيم بقوّات ثابتة على الأرض.

لذلك، ما هو المنطق الاستراتيجي وراء الهجمات في تركيا؟ وما الذي يحاول التنظيم إنجازه بضربه لملهىً ليلي حديث في ليلة رأس السنة؟ تعي الدولة الإسلامية جيدًا الانقسامات السياسية في تركيا، وتقوم باستهداف مباشر لنقاط الضعف الحرجة في البلاد، وأعني الانقسامات السياسية العميقة في البلاد. وتهدف إلى إثارة شرائح المجتمع المختلفة ضد بعضها البعض.

وفي هذا السياق، لا يأتي توقيت ولا موقع الهجوم الأخير بشكل عشوائي. بل تمّ اختيارهما بدقّة للعب على التوتّرات بين العلمانيين والمحافظين دينيًا داخل تركيا.

توقيت استراتيجي

ويعدّ توقيت الهجمات استراتيجيًا بطريقتين. الأولى، كانت احتفالات رأس السنة طويلًا مصدرًا للتوتّر بين العلمانيين والمسلمين المحافظين. وثانيًا، سبق ونكأ الرئيس التركي «رجب طيب أردوغان» وحزبه العدالة والتنمية هذا الجرح العام الماضي، الأمر الذي خلق حوافز مباشرة للتنظيم للاستفادة من التوتّرات المتزايدة حول هذه القضية.

إذًا فلمَ تمثّل احتفالات ليلة رأس السنة توتّرًا بين العلمانيين والمحافظين؟ يدّعي الأتراك المسلمون المحافظون أنّ الاحتفالات تشبّه بالمسيحيين، في حين يقول العلمانيون أنّهم يحتفلون قبل رأس السنة بأسبوع. ومن الحقيقي أنّ الأتراك لا يحتفلون بعيد الميلاد في حدّ ذاته. لكنّهم يقومون بكل الطقوس التي تشبه أعياد الميلاد مثل شجرة الكريسماس والهدايا وتجمّع العائلة على وليمة ليلة رأس السنة. وقد يصل الأمر للتهادي بالملابس الحمراء لأفراد العائلة والأصدقاء المقربين، ومشاهدة الراقصات في التلفاز، والرقص والاحتفال وشرب الخمور. وكل هذا كاف لإشعار المسلمين الأتراك المحافظين بالاستياء.

وتأسّست تركيا الحديثة العلمانية عام 1923. وقد قدم «مصطفى كمال أتاتورك»، الذي حكم حتّى وفاته عام 1938، منهجًا علمانيًا غربيًا قوميًا «للأتراك الجدد». وفي جهوده للتغريب، اتّخذ «أتاتورك» بعض التدابير المتشدّدة مثل استبدال الحروف الأبجدية العربية بالأبجدية اللاتينية، وإحلال التقويم الغريغوري (الذي نحتفل على أساسه بليلة رأس السنة) مكان التقويم الهجري الإسلامي. وفي ظل هذه الظروف، فالطريقة التي يحتفل بها العلمانيون بالإجازة اليوم، تلائم «العلمانية والتوجه الغربي». وهو ما يعني التوافق مع الغرب، دون أن يكونوا مسيحيين مثلهم.

ومع ذلك، فشل الآباء المؤسسين للعلمانية في تحويل المجتمع ذي الأغلبية المحافظة بمجمله. ففي حين يمكن وصف ربع السكان بالعلمانية تقريبًا، يتألف نصف السكان من المحافظين الذين شعروا بالظلم في ظل حكم النخب العلمانية الذي استمر منذ عام 1923 وحتّى صعود «أردوغان» إلى السلطة عام 2002. وبالنسبة للكثير من المحافظين، فإنّ احتفالات رأس السنة تمثّل تقليدًا دخيلا «أجنبيًا» (وإن كان لم يفرض من قبل الأجانب).

ووراء هذه الرواية للصورة الكبيرة، توجد ديناميكية أكثر مباشرة تجعل هذا التوقيت للهجوم استراتيجي. فقد اتّخذ حزب العدالة والتنمية وتابعيه موقفًا عدائيًا ضد احتفالات ليلة رأس السنة خلال الأشهر القليلة الماضية. وعلى سبيل المثال، فقد أصدرت وزارة الشؤون الدينية خطبة موحدة للجمعة وزّعت على المساجد في جميع أنحاء البلاد حول عدم شرعية هذه الاحتفالات يوم 30 ديسمبر/ كانون الأول. وشهدت الأسابيع الأخيرة أيضًا عددا من الحوادث ذات الصلة، وفيها قام بعض الإسلاميين الأتراك باحتجاجات متطرّفة ضد الأعياد، حتّى أنهم قد جسّدوا بابا نويل مسلّح من الجلد أمام الكاميرات، مع عدم وجود تداعيات قانونية ضد هذا التطرّف والدعوة إلى العنف. وانعكست الصور ذات الصلة كتعبير عن «فوبيا المسيحية»، لكنّ الاحتجاجات كانت في الأساس تستهدف العلمانيين الأتراك.

استراتيجية المكان

ويأتي اختيار ملهى رينا الليلي الراقي كهدف للهجوم كفطنة استراتيجية من جانب التنظيم أيضا. فرينا علامة تجارية مميزة، معروف باستضافته للسياح والنجوم والمشاهير والرياضيين كذلك. ومن منظور واحد، يمكن النظر إلى رينا كمركز لانحطاط (المشاهير والأثرياء القذرين)، وهو أكثر الأماكن سخونة لإقامة حفل في المدينة. وكان التنظيم يعوّل على فكرة أنّ على الأقل بعض المحافظين دينيًا في تركيا سيتعاطفون مع الهجوم أو سيغضّون النظر عنه، كونه لا يستهدفهم، بل يستهدف فئة الأثرياء المنحطين الذين يحتفلون بالعيد (الكفري) بشرب الخمر.

ونظرًا لهذه الخلفية، شكّلت 3 آليات القوّة الدافعة لاستراتيجية التنظيم في هجوم ليلة رأس السنة. أولا، يلعب الهجوم على مخاوف العلمانيين وغضبهم فيما يتعلّق بالمشاعر السلبية الأخيرة تجاه احتفالات ليلة رأس السنة، الأمر الذي يحفزهم لإلقاء اللوم في الهجوم على حزب العدالة والتنمية بنفس القدر الذي يلومون به المتشدّدين الإسلاميين الذين، من وجهة نظرهم، قد حصلوا على التشجيع من قبل الحزب. وتسبّبت خطابات الحزب الأخيرة في نزع الشرعية عن الاحتفالات، الأمر الكافي لجعل هذه الحجة منطقية. ونلاحظ هنا أنّ العلمانيين غير معنيّين فقط «بحقّهم في الاحتفال»، بل يشعرون أنّ «نمط حياتهم العلماني» بأكمله مهدد من قبل حزب العدالة والتنمية وأتباعه.

ثانيًا، قد يكون التنظيم أو قد لا تكون على حق في تحديد كيفية استجابة المحافظين الأتراك للهجوم، لكنّهم كانوا مصيبين بشأن المتشدّدين الإسلاميين الذين حيّا بعضهم الهجوم على وسائل التواصل الاجتماعي. وعلى الرغم من أنّ عددًا قليلًا فقط قد تغاضوا علنًا عن الهجمات، ركّز العلمانيون على تلك الاستجابات في التأكيد على مخاوفهم وغضبهم وكذلك الاتهامات الموجّهة ضد حزب العدالة والتنمية وغالبية المحافظين بأنّهم لا يدفعون البلاد فقط نحو الفوضى وعدم الاستقرار، ولكنّهم أيضًا يسعون لتطبيق الشريعة.

والآلية الثالثة هي الأكثر أهمية، وهي معضلة الأمن الداخلي، حيث يدفع الخوف من الآخر كلا من العلمانيين وحزب العدالة والتنمية لتوظيف خطاباتٍ أكثر عدوانية وتحريضًا على الاستقطاب. وهذا من شأنه خلق حلقة مفرغة تغذّي فيها المخاوف الموجودة الخطاب الدعائي، ويحضّ الخطاب الدعائي على الخوف والغضب من الطرف الآخر، الأمر الذي يعمّق هوّة المواجهة بين العلمانيين والمحافظين.

وبشكل خاص، بعد محاولة الانقلاب في يوليو/ تموز، تملّك حزب العدالة والتنمية جنون العظمة، الأمر الذي يعرّضه لانتقادات لاذعة. وبصراحة، أظهرت احتجاجات غيزي بارك عام 2013 أنّ العلمانيين يمكنهم التعبئة والحشد، وهو الأمر الذي يخشاه العدالة والتنمية منذ ذلك الوقت. وآخر شيء قد يحتاجه العدالة والتنمية في هذه الأيام العصيبة، أن تقوم العلمانية بإثارة الاضطرابات الاجتماعية في البلاد. وعلى الأرجح سيستجيب حزب العدالة والتنمية لهذا التحدّي من خلال تدابير «وقائية» تشمل وضع المزيد من الضغوطات على العلمانيين، وتوجيه اللوم لبعض الشخصيات أو الجماعات العلمانية البارزة بأنّهم إمّا «متعاونون مع الإرهاب» أو «لعبة في يد القوى الخارجية التي تهدف إلى إشعال حربٍ أهلية». وعلى الأرجح ستعمل هذه التدابير على تضخيم مخاوف العلمانيين وغضبهم، الأمر الذي يقود إلى مزيد من الاستقطاب في البلاد. وسيرد حزب العدالة والتنمية بعد ذلك بقسوة أكبر على التهديدات الحقيقية أو المتصورّة التي تهدّد حكمه، وتستمر الدائرة.

خلاصة القول، لا يضرب تنظيم الدولة أهدافًا محدّدة بدقّة وملموسة فقط في تركيا، لكنّه يضرب المراكز العصبية لتركيا، وخطوط الصدع في المجالات الدينية والسياسية. ومثل هذه الهجمات تشكّل خطرًا مضاعفًا الآن، بسبب تزايد الاستقطاب السياسي في أعقاب محاولة الانقلاب الفاشل الذي دفع تركيا بالفعل إلى حافة الانهيار.

وإذا أرادت التغلّب على استراتيجية التنظيم لا تحتاج أنقرة فقط إلى استراتيجية سليمة لمحاربة الإرهاب، ولكن أيضًا استراتيجية سياسية لتخفيف الاستقطاب والعداء الناشئ بين العلمانيين والمحافظين.

المصدر | وور أون ذا روكس

Previous Post
Next Post

About Author

0 comments: