إدراك البُعد الشيعي للإرهاب
"مراجعة الدراسات الأمنية لجامعة جورج تاون"
شباط/فبراير 2017
في محاولة لمعرفة ما يجب القيام به حيال تنظيم «الدولة الإسلامية» («داعش»)، يبدو أن المجتمع الدولي نسي الوجه الآخر من الموضوع، ألا وهو الميليشيات الشيعية في العراق وسوريا ولبنان ودول أخرى في المنطقة المدعومة من إيران. فمكافحة الإرهاب تتطلب إلقاء نظرة أوسع على الجماعات الإرهابية، وفهم أنها تتغذى من الخطابات الطائفية لبعضها البعض.
ويستخدم تنظيم «الدولة الإسلامية» خطاباً طائفياً مناهضاً للشيعة من أجل تجنيد المحاربين، وتقوم إيران بالشئ نفسه من خلال استخدام خطابٍ مناهضٍ للسنّة - أو مناهض للتكفير - بصورة متزايدة. ومن أجل إلحاق الهزيمة بتنظيم «داعش»، يجب ألا نتجاهل الميليشيات الايرانية المسلحة والفظائع التي ترتكبها في المنطقة، والعكس بالعكس. ومع ذلك، لا يعني هذا أنّ الحل هو قصف الميليشيات الايرانية في سوريا والعراق، أو الاستمرار بقصف تنظيم «الدولة الإسلامية» للتخلص منه. فمع التدخل الروسي في سوريا، وإدماج «وحدات الحشد الشعبي» في الجيش العراقي، وسيطرة «حزب الله» على مؤسسات الدولة في لبنان، فإن الحل العسكري ليس بهذه البساطة.
لقد ساهم حدثان أساسيان في وضع المنطقة على مفترق طرقٍ في السنوات الثلاث الماضية هما: إعلان "الخلافة" أو «الدولة الإسلامية في العراق والشام»، و«خطة العمل المشتركة الشاملة»، التي تُعرف عموماً بالاتفاق النووي الإيراني الذي تم التوصل إليه في فيينا في 14 تموز/يوليو 2015 بين إيران و «مجموعة الخمسة زائد واحد». ولكن بينما كان العالَم يركّز على هذين الحدثين وتداعياتهما في المنطقة وأوروبا والولايات المتحدة، كانت إيران تعمل بانتظام من أجل تحقيق هدفيها الأساسييْن، وهما تعزيز هيمنتها الإقليمية وربط طهران عبر العراق وسوريا بجنوب لبنان، وتنفيذها كلا الهدفين من خلال توفير ممر جغرافي يمتد عبر الدول الثلاث، والاستحواذ على القرار السياسي في العواصم الثلاث: بغداد ودمشق وبيروت.
تنفيذ الخطاب المقدس لـ «حزب الله»
بدأت خطة إيران في لبنان في عام 1979، حالما تأسست دولة إيران الإسلامية في طهران. وأسفرت جهودها للحصول على دعم الشيعة اللبنانيين عن تأسيس «حزب الله» في عام 1982 كمقاومةٍ إسلامية ضد إسرائيل. وعلى الرغم من أن مفهوم المقاومة كان أداةً ناجحة جدّاً لاجتذاب الدعم، إلا أن الفكرة لم تكن لتنجح دون وجود استراتيجيةٍ تُسفر عن تشكيل هويةً شيعيةً جديدة. وبالتالي، أستندت استراتيجية «حزب الله» على ثلاثة أركان.
أولاً، بنى «حزب الله» اقتصاداً مستقلّاً وقدّم خدماتِ اجتماعية للمجتمع الشيعي في لبنان، مما أدّى إلى اعتماد الشيعة على «حزب الله» واستقلالهم عن مؤسسات الدولة. فأصبح «الحزب» حامي الشيعة ومُعيلهم، وكان من السهل تحقيق ذلك لأن الحرب الأهلية اللبنانية كانت قد أضعفت مؤسسات الدولة.
ثانياً، ربط «حزب الله» عقيدة المقاومة الخاصة به بجزءٍ من ذاكرة الشيعة الجماعية لمعركة كربلاء في عام 680 م، عندما هزم الجيش الذي أرسله الخليفة السني يزيد بن معاوية الإمام الحسين بن علي، حفيد النبي محمد. وقد شكّلت تلك المعركة جذر الانشقاق التاريخي بين الإسلام السني والشيعي، وسمحت لـ «حزب الله» بإدراج أقوى عنصر من الهوية الشيعية في خطاب المقاومة الذي يسرده. وفي الواقع، يتم التشبيه بين علي وعائلته من جهة و«حزب الله» من جهة أخرى، ويتم مساواة أعدائهم مع إسرائيل.
ثالثاً، ربط «حزب الله» كل ذلك بعقيدة ولاية الفقيه الخاصة بإيران، والتي بموجبها يحق للقضاة المسلمين حكم شعبهم. وكون الجمهورية الإسلامية البلد الوحيد الذي يحكمه فقهاء الشريعة الإسلامية ثقافياً ودينياً واقتصادياً، فإن هذا يجعلها المعيل والحامي الرئيسي للمذهب الشيعي وللمؤمنين به. وتم تنفيذ ذلك من خلال التدقيق الشديد في جعل المناسبات والأحداث الثقافية والدينية والاجتماعية الشيعية في لبنان جزءاً من خطاب المقاومة الأوسع ومن تعريف إيران للمذهب الشيعي. فتحولت كل مناسبة إلى فرصة للتسييس وحشد الدعم الشعبي للحزب.
وقد أدى كل ذلك إلى إضفاء الطابع السياسي الشديد على المجتمع الشيعي، حيث اختلطت السياسة بالتاريخ ليشكّلا "خطاباً مقدّساً". وخلال الحرب مع إسرائيل عام 2006، استُخدِم هذا الخطاب للإعلان عن نصرٍ إلهي. وأصبح الشيعة في لبنان ينظرون إلى كل ما فعله «حزب الله» أو قاله على أنه مقدس وغير قابل للجدل.
لكن عندما جُرّ «حزب الله» إلى الحرب في سوريا، بدأت الأمور تتغيّر، وبدأ الخطاب المقدس ينهار. وتم قمع سخط الرأي العام لفترة من الزمن عبر تشبيه المعارك في سوريا بمعركة كربلاء. فإلى جانب الادعاء بالدفاع عن القرى والمزارات الشيعية، بدأ «حزب الله» تسويق مشاركته [في القتال] على أنها ضرورية للدفاع عن الهوية الشيعية، تماماً كما فعل الحسين بن علي في القرن السابع الميلادي. وادّعى «حزب الله» أيضاً أنّ الحرب في سوريا هي معركة مقدسة من شأنها أن تمهد الطريق لظهور المهدي المنتظَر، أي "الإمام الثاني عشر" الذي يشكّل شخصية مُنتظرة بالنسبة للمسلمين الشيعة. لكن مع ازدياد عدد القتلى في سوريا، بدأ معظم الشيعة في لبنان يدركون أن الخطاب المقدس ليس دائماً وصفة لتحقيق النصر.
كيف حوّلت سوريا «حزب الله»
غيّرت سوريا أولويات «حزب الله» واستراتيجياته وخطابه. فأصبحت معظم ميزانيته مخصّصة للعمليات العسكرية. وعلى الرغم من استمراره في تمويل الخدمات الاجتماعية، إلا أن القسمٌ الأكبر من هذه الأموال قد وُجّه للعائلات والمؤسسات المرتبطة بالبنية التحتية العسكرية الخاصة بـ «الحزب». كما أن "المقاومة" ضد إسرائيل أصبحت ثانوية إذ غيّر «الحزب» تركيزه وبدأ يوجهه نحو النزاع السوري.
واليوم، يتردد «حزب الله» في شنّ حربٍ على إسرائيل علناً. لكنّ الأهم من ذلك هو أنه فشل في الالتزام بـ"نصره الإلهي". فبعد أن اعتُبر «الحزب» يوماً قوةً حققت انتصاراتٍ سريعة وحاسمة، أصبح حالياً قوةً تشحن إلى الوطن جثث "الشهداء" الذين قُتلوا في حربٍ أجنبية.
وفي حين تترسخ جذور «حزب الله» بعمق أكثر في سوريا، تحوّلت المقاومة التي كانت تجذب إليها سابقاً متطوعين متحمسين، إلى مؤسسةٍ مشتركة لمقاتلين يبحثون عن دخلٍ أو منصب. وبعيداً عن تلبية النداء، أصبح المجنّدون الجدد يتقدّمون الآن للعمل في الحرب السورية، بعد أن أغراهم الراتب الذي يتراوح بين 500 و1200 دولار أمريكي شهرياً، فضلاً عن المنافع الإضافية.
واليوم، ينظر العديد من الشيعة في لبنان إلى «حزب الله» كحامٍ للطائفة وكمُستخدِم. فالخطاب الطائفي الذي فاقم الخلاف بين السنّة والشيعة في المنطقة تسبب في عزل المجتمع الشيعي عن جذوره اللبنانية والعربية، فحرّمه من فرص العمل في لبنان ودول الخليج. وأصبح القتال في سوريا مصدر الدخل الوحيد تقريباً للمسلمين الشيعة الذين ينتمون إلى عائلات وأحياء فقيرة. ولم يعُد للحرب أي معنى، حيث أصبحت ضرورةً فقط.
وقد أدّى ذلك إلى حدوث تغييرات جدّية في صفوف «حزب الله». فأصبح المقاتلون المدربون الذين انضمّوا إلى «الحزب» قبل الحرب السورية يغادرون حالما يجدون مصدر دخلٍ آخر، في حين يتدفق قادمون جدد، الذين هم أقل تدريباً، وليسوا بنفس القدر من الولاء، وأقل تديناً، لكنهم أكثر طائفية.
الصورة الإيرانية الأكبر
بصرف النظر عن ذلك، أنجزت إيران خطتها الإقليمية تقريباً - بمساعدة المجندين الشيعة الجدد من لبنان والعراق وأفغانستان وباكستان. فاليوم، يشكّل «حزب الله» و «وحدات الحشد الشعبي» العراقية وميليشيات شيعية باكستانية وأفغانية أخرى - يُشار إليها بـ "الفاطميين" - قوةً واحدةً تقع تحت سيطرة «الحرس الثوري الإسلامي» الإيراني. فهذا الجيش القومي الشيعي تم إنشاؤه وتمويله وتدريبه من قبل «الحرس الثوري» من أجل تعزيز السيطرة الإيرانية على المنطقة. وتتمثل المهمة الرئيسية لهذا الجيش الشيعي في سوريا، في حماية «سوريا المفيدة» - وهي ممر جغرافي يمتد من الساحل العلوي عبر حمص وضواحي دمشق وصولاً إلى القلمون على الحدود اللبنانية. ويمر أيضاً عبر حمص إلى الحدود العراقية مروراً بحلب ودير الزور، وبالتالي يربط بين سوريا والعراق عبر تلعفر، حيث تمارس «وحدات الحشد الشعبي» نشاطاً كبيراً اليوم.
وعلى الرغم من تدخل روسيا في سوريا وازدياد سيطرتها على مؤسسات الدولة السورية، إلّا أن «سوريا المفيدة» الخاصة بإيران لا تزال على ما هي عليه. [فقيام] ممر إيراني في سوريا لا يشكل أهمية للرئيس الروسي فلاديمير بوتين طالما لا تحاول طهران التجاوز على قدرة روسيا في دمشق.
وإيران تعلم أنها بحاجةٍ إلى موسكو، نظراً لأن إدارة ترامب الجديدة أشارت إلى موقف أمريكي أكثر صرامة تجاه الاتفاق النووي ومصالح إيرانية أخرى. لذلك، إذا أرادت روسيا التحكم بالأمور في الساحة الدولية بينما تؤمّن إيران مركزها في سوريا، فلن تثير طهران الكثير من المشاكل.
بيد، بالنسبة لإيران، لن يكون هذا الممر آمناً إلا إذا تم إخلاؤه من السنة، وتأمينه من قبل الميليشيات الشيعية، وخاصةً «حزب الله»، ويعود ذلك إلى انعدام الثقة بين «الحرس الثوري» الإيراني والجيش السوري. لذلك، في الوقت الذي كان فيه الأسد يحمي دمشق من خلال توقيعه اتفاقات مع المتمردين في القرى المحيطة بها بعد محاصرتها لسنوات، كانت إيران تستغل تلك الاتفاقات لإخلاء السنة إلى شمال سوريا.
ومسبقاً، نفّذ «حزب الله» تطهيراً عرقيّاً خاصّاً به في بعض المناطق على طول الحدود (على سبيل المثال، حملتيْهِ في عام 2013 في القصير ومنطقة القلمون). كذلك، تم إجلاء مئات الآلاف من السنة من حمص بين عامي 2011 و2014، عندما تم التوصل أخيراً إلى اتفاق مع قوات النظام بعد أن بلغت المجاعة مستويات مرعبة. ووفقاً للصحافة العربية، تم نقل عوائل عراقية، "خاصةً من المحافظات الجنوبية [التي يسكنها] الشيعة"، إلى سوريا من أجل إعادة تأهيل ضواحي دمشق التي تم إخلاؤها مؤخراً. وتفيد بعض التقارير إن «حركة حزب الله النجباء»، وهي قوة شبه عسكرية شيعية عراقية مقرّبة من إيران، أشرفت على إعادة توطين ثلاث مائة عائلة من هذه العائلات التي حصل كلٌّ منها على منزل ومبلغ ألفي دولار.
وهذا الممر السوري مهم لإيران لأنه سيكون بمثابة الجسر الذي سيربط طهران بجنوب لبنان. ومن الناحية المادية، سيشكّل طريقة أرخص بكثير وأقل صعوبة لنقل الأسلحة والمعدات والمقاتلين، لكنه يشكل أيضاً منصة للنفوذ تعزز وجود إيران وكلمتها في القرارات السياسية والعسكرية.
وقد استثمرت إيران الكثير من الموارد والأموال والمقاتلين والطاقة في سوريا، [بحيث لا يمكن التوقع أن توافق] على التخلي عن مصالحها إذا تم التوصل إلى اتفاق دولي. فإيران موجودة هناك لتبقى، كما أن «حزب الله» لن يعود إلى لبنان في المستقبل القريب.
التطلع إلى الأمام
على الرغم من عزم إيران على الاستحواذ على هذا الممر وتأمينه، ستبرز تحديات يمكن أن يستغلها المجتمع الدولي.
فهذا الممر سيكون محاطاً ببحرٍ من السنّة الغاضبين الذين لن يرضخوا للهيمنة الإيرانية - دون حل سياسي تعترف به جميع الجهات الفاعلة الإقليمية والدولية. وما زالت إيران تفضّل حلّاً عسكريّاً، على الأقل إلى أن تُكمل سيطرتها على «سوريا المفيدة» وتربطها بكل من الحدود العراقية والحدود اللبنانية. ومع أنه ليس من السهل تعطيل هذا الممر، لم يفت الأوان بعد للمحاولة، على الأقل في المناطق التي لم ينته أمرها بعد. فباستطاعة حل سياسي استراتيجي طويل المدى أن يضع حدّاً للإجراءات العسكرية الإيرانية، ويُلزِم «الحرس الثوري» بإيقاف خطته لإكمال [إقامة] هذا الممر. غير أنه لا يمكن لأي حلّ أن يكون مجدياً إذا توسطت فيه روسيا فقط - مثل اتفاق الأستانة. ومن الضرورة لأي حل أن يشمل كافة الجهات الإقليمية، وفي هذا الصدد لا يمكن أن تقف الولايات المتحدة موقف المتفرج.
وقد تشكّل العقوبات الإضافية التي تستهدف الكيانات المتورطة في العمليات الإقليمية الإيرانية، وسيلة أخرى لزيادة الضغط على الميليشيات الشيعية التي تحارب تحت رعاية «الحرس الثوري» الإيراني. لكن هذه الأداة قد تحقق نجاحاً أكبر إذا اقترنت بتوفير بدائل اقتصادية للمجتمع الشيعي.
على سبيل المثال، قال عددٌ كبير من المقاتلين وغير المقاتلين الشيعة الذين أجريتُ معهم مقابلاتٍ إنهم لم يكونوا ليفكّروا بالحرب في سوريا لو تمكنوا من الحصول على وظائف أو قروض للبدء بأعمال صغيرة. وتكمن المشكلة في أنهم يعتمدون على «حزب الله» إلى حد كبير وليس لديهم خيارات أخرى. ولم يكن هذا الاعتماد المالي يمثّل مشكلة قبل الحرب في سوريا، بسبب خطاب المقاومة الذي رافقته الخدمات الاجتماعية. فجميع الأمور كانت واضحة ومنطقية. أما اليوم، فبسبب إضفاء الطابع العسكري على المجتمع الشيعي في لبنان، يريد الكثيرون إيجاد مخرَج [من هذا المأزق]. لذلك، فإن إعادة هذا المجتمع إلى وضعه الطبيعي تتطلب جهوداً جدية وطويلة المدى لفصله ماليّاً عن «حزب الله» وإيران.
والخبر السار هو أن الكثيرين في هذا المجتمع يرغبون في ذلك اليوم.
حنين غدار، صحفية وباحثة لبنانية مخضرمة، وزميلة زائرة في زمالة "فريدمان" الافتتاحية في معهد واشنطن.
0 comments: