Sunday, July 16, 2017

دعوة لتجاوز الطرق التقليدية في خطاب الوحدة والتقريب

دعوة لتجاوز الطرق التقليدية في خطاب الوحدة والتقريب

لديّ فكرة عن المخرج الوحيد للفرقة بين المذاهب الإسلامية، لكن أدرك أيضا أنها فكرة تقتضي أن يكون المتلقّي ضالعا في القول الفلسفي مدركا لنكاته شجاعا من أجل المعرفة، لذا لن أبوح بها حتى لا نصبح مصداقا لقولة منسوبة إلى الإمام ذي الثفنات:
ورب جوهر علم لو أبوح به+++لقيل لي أنت ممن يعبد الوثنا
وعليه فإنّ صعوبة هذا الحلّ تقتضي لا جدوى التخاطب به في الفضاء العمومي، وتبقى الشعبوية هي ما يجعل الدين خارج حدود العقل بالفعل. وبما أنّ الدين يحتلّ المساحة العاطفية للناس خارج تقدير العقل فيصبح من الصعوبة بمكان وضع حلول فلسفية. والحل يا ترى؟ الحلّ في السياسة، لأنّها تملك أن تخلق المفارقة بواسطة السلطة العارية من الإقناع العقلي ولكنه تملك نفوذا واسعا وتأثيرا فوريا لأنّ الناس مولعة باتباع الأكثر نفوذا والصلاة وراء من غلب. إذن هي السياسات التي بدأت توظيف الدين سلبا وهي القادرة على توظيفه إيجابا. إنّنا ندرك أنّ السياسة هي الأخرى لم تعد في حدود العقل لأنها لا تستجيب لقواعد علم السياسة بل تستند إلى نظرية الألعاب التي جاءت لتكون بديلا عن بيروقراطية العدالة الكونية، السياسة هي لما جعلت له من أغراض والدين بات تابعا لها ، وأقصد تحديدا التديّن المعرفي ، أي شكل الخطاب الذي تنتجه جماعة محددة في زمن محدد ابتغاء تحقيق غايات محددة. هذا الدين هو ليس دين الله الذي يلخّص آمال المستضعفين في الأرض، التي نستطيع أن نستخلص صورة هذه العدالة من صميم آلامهم نفسها، وإذن بات هذا الدين مشروعا للاستعمال وأداة للحرب كما هي السياسات.
الوحدة والتقريب في نظري قضية شديدة التعقيد، وهي ليست موضوعا متاحا لأنّ مسارات التدين لم تعد في ملك المؤمنين، بل هي حالة معقّدة تلعب فيها جملة من المؤثرات الموضوعية لعبتها التي يستقبلها العقل بحسب أدواتها وإمكاناته في الفهم. العوام يجنحون للصدام ومحاسبة الضمير لأن التدين لدى العموم هو حكاية تقع خارج مدارك المستويات العالية للاشراق والمعرفة. وحين تغيب الفلسفة تحلّ الأيديولوجيا التي هي حصان طروادة السياسة في حروبها على المعنى وإعادة نظم العالم حسب توافقاتها ومقاصدها.
ولا شك أنّ السياسة تتأثّر بعوامل النفوذ، وهي هنا تنتج فهما وتصورا تناكف به سائر التصورات التي تناهض مآربها. المقاومة هنا ضرورة لأنّ تجريد المعنى من أسباب القوة والنفوذ يساهم في الضحالة. هنا لا بدّ من تصريف المعنى تصريفا سياسيا. السياسة وحدها تستطيع مواجهة السياسة، فما لا يتسيّس يكون عرضة للانقهار بأسوأ السياسات. ما يجهله أو يتجاهله الكثير من المهتمين بواقع الاختلاف والصدام بين الفرق والطوائف والمذاهب هو اعتقادهم أنّ المدار هو على القناعة ونبل المعنى، وهذه نظرة بدأت تكشف عن تبسيطيتها حيث لا وجود لمزاج مستقر في خضمّ ما تنتجه السياسات من أسباب الفرقة والتقسيم والحروب بوسائل ومهارات مهنية تنتمي إلى أقرب أشكال العقل للتداول وأكثرها سطحية في المحتوى: العقل الأداتي. لقد أصبحت الطائفية اليوم تستنجد بمهارات العقل الأداتي بينما لا زال دعاة الوحدة والتقريب يتشبثّون بالعقل الأفلاطوني. هناك اختلال كبير في استيعاب مسارات المنطق التواصلي، أستطيع ان أقول من دون تردد بأنّ دعاة الطائفية على غباء محتوى دعوتهم هم متوفقون في تقنيات الخداع التواصلي لأنهم استندوا إلى مخرجات العقل الأداتي ومهارات فعل الكلام التي ساهم فيها التكوين الأمريكي لعديد من دعاتهم لا سيما وأننا هنا نؤكّد على أثر الطفرة النفطية التي كان لها الأثر البالغ في تنمية التدليس الوهابي من أساليبه الكلاسيكية إلى أساليب البرمجة اللغوية العصبية. وهذا ما جعل داعش التي تنطوي على أسوأ مضمون وأشرس مشروع تتقن التواصل مع أوسع شرائح المجتمعات وتستطيع أن تطيح بالوعي الجمعي وتحدث فيه ثقوبا واسعا. بينما دعاة التقريب ذوي النزعة الأفلاطونية المجردة لا زالوا يستعملون الطرق الحجاجية التقليدية التي تصل حد التّخشّب واللافتقار إلى المرونة والانسيابية وتقنية الصورة، لأنّها تفتقر إلى البعد التواصلي وتستند فقط إلى قوة المضمون.
لقد أظهرت السياسات التقليدية العقيمة لمسألة التقريب بين المذاهب فشلها إلى حدّ ما لأنها لم تبدع طرقا أكثر إيجابية وحيوية خارج منطق المجاملة. ذلك لأنّ تداول خطاب التواحد والتضامن في السلم تحصيل حاصل في هدأة الفتن والصراعات وتناقض السياسات، فلم ينتج خطاب التقريب جيوبا لمقاومة السياسة الطائفية حينما دخلت المنطقة في موجة الحرب الطائفية. أكثر القوى والأحزاب والجمعيات والشخصيات التي احترفت الحديث في التقريب زمن السلم انقلبت على أعقابها وبحثت عن أدنى المبررات لتكريس ردّتها باتجاه التوحش الطائفي. بالنسبة لي شخصيا لا يمكن أن أخطئ هذه البروفايلات، لأنّني أعتمد التحليل النفسي للخطاب. الصبر على الوحدة والتقريب ليس ديدن المجاميع التي تتسابق على هذا الخطاب في أيّام الهدنة، بل هنا لا تحدث متابعات بقدر ما تتضخم المجاملات السطحية والموسمية وتكريس الانتهازية والكذب. لا أريد هنا أن أحصي عدد الحالات ولا أضع أرشيفا من عجائب المرتدين عن خطاب التقريب حينما أزفت الآزفة. ليست تلك دعوة للانغلاق، فهذا مرفوض ولا يمكن استنباطه من عمق ما نتحدث عنه بل هي دعوة للحكامة والتدبير الأمثل لاقتدارات الأمّة خارج دائرة الانتهازية وتمكين الوصولية من إفساد أمورنا. إنّ الانتهازية تضحك منّا، ولكي نمارس اقتصادا حقيقيا في مشاريعنا وجب رسم خريطة للانتهازية ووضع قائمة للمنافقين برسم الحذيفية(= نسبة إلى حذيفة بن اليمان)، أعني أنّ أسماء المنافقين كانت تتداول في سرّية تامة بين القادة الكبار ، أي كفى من تعويم وتمكين المنافقين بدعوى تكريس العلاقات العامّة، لأنّ قصة النفاق مع تخريب مشاريع الأمة لا يضاهيها شيء، ومتى كان المنافقون درعا واقعية للوحدة والتضامن؟
إنّ التكرار المملّ للوسائل نفسها والبرامج نفسها وغياب التطوير اللاّزم من شأنه أن يهدر المال والطاقات في لعبة التنافق والمجاملة. أستطيع أن أضيف أمرا قاتلا يجب الوقوف عنده مليّا وتأمّله تأمّلا بالغا: ثمة خلل فظيع في استراتيجا العلاقات العامة، هناك وهم وتواهم مستمر يؤخّر قطف ثمار الموقف الجقيقي والغائب كما ينبغي أن تنهض عليه المشاريع الجادّة.
ادريس هاني 14/7،2017


Previous Post
Next Post

About Author

0 comments: