المشكلة في بورما أكبر مما نتصوّر
كل شيء بات رهن للسياسة، حتى تلك الظواهر التي كانت تستمدّ فعاليتها من ذاتيتها في زمن الأنارشيات، فإن ميلاد الدّولة_الأمّة لازمته الشّمولية. إنّ الوجه الآخر للأنارشيا هو الهيمنة الأنطولوجيا للدّولة التي لا تقف في فورة شموليتها وقوتها عند إقصاء المجتمع فحسب بل تصبح الدّولة الضعيفة أهم ضحاياها أيضا. فالنظام الدولي نفسه يعيش حالة من الديكتاتورية حيث تبتلع الدول الكبيرة الدول الصغيرة ثم يأتي القانون لينتحب ويربت على كتف الضمير في عالم تتآكل فيه السيادات. وعلى هذا الأساس كان لا بدّ من التذكير أنّ سائر القضايا في العالم لم تعد قضايا مختلفة بل هي قضية واحدة من حيث أنّ المتحكّم بسائر الأزمات هو السياسة. البحث عن حلول للأزمات يكمن في فهم السياسة أصول لعبتها المعلن منها والخفي. هذا هو الذي يسمّى التآمر. إنّ نظرية المؤامرة هي شيء معطّل للنظر السياسي حين تنهض على النوايا لا على التحقيق. وهي من الحقائق التي إن مورست من دون تحقيق تحوّلت إلى هذيان. ولكن الوضعية التبسيطية لنظرية المؤامرة لا تلغي واقع مشاريع خطط الهيمنة. لا شيء إذن يمرّ خارج لعبة السياسة، بما في ذلك صراع الثقافات والأديان. مثلا مشاكل بورما وسياسة الإبادة الممنهجة للروهينغا وإن كانت قديمة لكن وجب تغيير مناهج التفسير لأنّها أعقد من أن تفسّر بنزاع طائفي. لا شكّ أنّ الروهينغا والأقلية المسلمة الصينية في ميانمار لهما علاقة بعقد تاريخية قديمة. ومن هنا فإنّ الحلول التي تقوم بها عدد من الدّول لا يتجاوز السماح ببناء مخيمات لجوء للمضطهدين في بورما، وهو ما يحقق الهدف الأساسي للمجموعات المتطرفة التي تحظى بتأييد من السلطات التي نهجت منذ سنوات سياسة الإقصاء والتهميش وعدم الاعتراف بالجنسية. إنّ دولتين عظمتين حول بورما لم تستطيعا حلّ هذه الأزمة، وربما باتت قضية الأقلية المسلمة في بورما أيضا رهينة بتناقضات جيوبوليتيكية، ستكون الوجهة مقابل ذلك: بنغلاديش، كاراتشي، السعودية...وبلدان أخرى..ستكون المنطقة قابلة للاستعمال الجيوبوليتيكي، هي اليوم بلد زراعي ولكنه ينطوي على احتياطي هائل من الغاز. وتعد ميانمار صديقة لإسرائيل ولا زالت هذه الأخير تعدّ موردا للسلاح حتى حينما تم فرض حضر على بيع السلاح لها. اليوم الصورة اكتملت، والعنف والتطرف له صور ونصيب من سائر الثقافات والأديان وغير الأديان: عنف الإنسان ضدّ الإنسان الذي خفّف منه واقع توازن رعب الإنسان لكنه يعود بين الفينة والأخرى كلما اختل توازن الرعب وخفّ وازع العقد الاجتماعي. العنف الوحشي من متطرفي راخين البوذية إلى كو كلوكس كلان المتمسّحة إلى هاغانا الصهيونية إلى داعش المتأسلمة الخ. ولكل حكاية تاريخ مع السياسة ومشاريع الاقتصاد السياسي. إنّ نمط العنف الذي يمارس في بورما ضدّ الأقلية المسلمة يذكّر بما تقوم به داعش أو ربما أكثر لأن داعش تقبل بفكرة الذّمّي لكن في بورما القتل على الهوية ومن دون شروط. وجب التذكير بأنّ العنف في بورما ليس خيالا بل هو واقع، والمجموعة المتطرفة من البوذية لا تقلّ عن غيرها. إنّ حالة التوحّش عارمة، لكن أيضا يجب التحقيق والنزاهة في نقل الحقائق، لأنّ التهييج الذي يسبق العاصفة الجيوبوليتيكية عادة ما يكون الغرض منه مزيدا من النكبات. بالنسبة للمحلل السياسي وجب الوقوف عند الكثير من الصور التي يروجها الإعلام وبعضها عند التحقيق يتعلّق مثلا بمجموعة حرقت في شاحنة نقل الوقود بالكونغو، أو تلك التي تتعلق بضحايا الإعصار الذي ضرب بورما في ماي 2008، أو صور حرق البوذيين لضحايا الزلزال الذي ضرب التبت عام 2010، أو حادثة حرق بعض المتطرفين البوذيين في تايلاند لأطفال ولدوا توّا وهو حالة تكفير عن اللعنات كما في معتقداتهم نظرا لأنهم ولدوا سفاحا...هناك صور كثيرة تروج اليوم مثلما شهدنا صورا كثيرة وبعضها مفتعل لمزيد من تعقيد المشهد. نعم قضية بورما تنحل بالسياسة والقانون وتحريك الملفات والمبادرات.. نعم توجد الكثير من حالات التعسف والجرائم التي يقوم بها المتوحشون الراخين ضدّ الوهينغا، لكن إذا لم تنحلّ بالسياسة والقانون وأعتقد من خلال مبادرات تقحم الهند والصين في هذا الحلّ، فإنّ الحلّ الذي سيزيد الأمور تعقيدا هو اللجوء إلى خيار افغانستان وطالبان والشيشان وبوكو حرام، على الرغم من أنّ داعش والقاعدة لم يظهروا هناك حيث الجرائم في بورما "شطارتهم" في إدارة التّوحّش. السؤال الذي يهمّنا هنا طرحه وهو مستبعد في المقاربات التبسيطية: ماذا يُراد ببورما وأي دور ترسمه الإمبريالية للروهينغا، وهل نحن قادمون على جيل من الحروب في خاصرة المجال الأوراسي يستدعي تحيين أشكال من الصراع بين الثقافت باعتبار أنّنا أمام مجال يعد بالطاقة وتدفق الراسميل وهو ما يتطلّب إخراج كل أثقال التّاريخ المأساوي للمنطقة وتناقضاتها وأوجاعها، حيث الصين واليابان وكوريا والهند..وجب على دول البريكس لا سيما الصين والهند وإيران احتواء الأزمة لأنها تدخل في صلب المعركة القادمة في الشّرق الأقصى، ولذا نلاحظ صمت بل تفهّم إسرائيل والرجعية لما يجري هناك، لإنهما يقومان بوظيفة عراّب الأزمة من الشرق الأوسط والأدنى إلى الشرق الأقصى لتكتمل دائرة الشّرق الشّقي ولتطويق دول البريكس شرق أوسطيا وشرق أقصئيا، والأداة والضحية هما الأقلّيات المسلمة في تخوم آسيا القصيّة. الهاغانا الصهيونية التي تمدّ عسكريا ميانمار بالسلاح والهاغانا الوهّابية التي تصدّر التّطرف والعنف إلى مسلمي آسيا الذين عاشوا شوافع وأحنافا صوفية، كلاهما سيكون له دور باعتبار أنّ الدخول إلى المجال الأوراسي بالنسبة للدّول-الإرهابية هو خلق حالة من الشرود والفوضى الجيوبوليتيكية، هذا العنف القاسي الذي يلازمه عمل إعلامي شرس وتحريضي هو واقع يحمل آثار المشروع الإمبريالي الذي رأينا له أمثلة كثيرة ما فتئت تخدعنا رغم وقوعها في التكرار..
ادريس هاني:5/9/2017
المشكلة في بورما أكبر مما نتصوّر
Tags:
إدريس هاني ..كاتب ومحلل
0 comments: