Friday, April 6, 2018

السياسة الأميركية تجاه السعودية: ترسيخ التبعية


السياسة الأميركية تجاه السعودية: ترسيخ التبعية


السياسة الأميركية تجاه السعودية ترسيخ التبعية

توطئة:

أثناء زيارته للولايات المتحدة الأميركية، مارس 2018، أعلن ولي العهد السعودي، والملك (المالك) الفعلي للبلاد، محمد بن سلمان، أن الوهابية كانت أداة لتنفيذ أجندات أميركية خلال مرحلة الحرب الباردة، وأن السياسة الخارجية لبلاده، كانت رهناً لهذه الأجندات، منذ تأسيسها عام 1932.
هذه التصريحات التي قال بها ابن سلمان، كانت نتائج أطروحة علمية تم تقديمها للحصول على درجة دكتوراه الفلسفة في العلاقات الدولية، كلية الاقتصاد والعلوم السياسية، جامعة القاهرة، منذ عشر سنوات تقريباً، وتحديداً عام 2009، وكانت بعنوان “السياسة الأميركية تجاه المملكة العربية السعودية: دراسة في تأثير البعد الديني”، والتالي، هو النص الحرفي الكامل لخلاصة هذه الأطروحة.

تمهيد

قامت الولايات المتحدة الأمريكية، في الثلاثينيات من القرن العشرين، بصورة رسمية، ببناء نموذج تعاون اقتصادي واستراتيجي قوي مع المملكة العربية السعودية بحكم وجود البترول والكوادر الأميركية والاتفاقات الأمنية والعسكرية، وبدأ بناء هذا النموذج بصورة غير رسمية في بداية القرن التاسع عشر من خلال الإرساليات الدينية التي أشرف عليها، وقام بتوجيهها المجلس الأمريكي لأمناء الإرساليات الخارجية، الذى تأسس عام 1810م، وبشقيها الرسمي وغير الرسمي، استطاعت سياسة الولايات المتحدة ترسيخ نفوذها في المملكة العربية السعودية، حتى أصبحت المملكة أهم حلفائها الاستراتيجيين في العالم، طوال القرن العشرين، للدرجة التي أصبحت معها المملكة أقرب إلى كونها أداة من أدوات تنفيذ الاستراتيجية الأميركية العالمية والإقليمية، منها إلى الحليف الذي يمكن أن يخالف حليفه إذا تعارض هذا التحالف مع مصالحه الاستراتيجية، ومرجعياته الدينية والقيمية، ومكانته ونفوذه الروحي، وخاصة أمام الطابع الخاص للمملكة، حاضنة الأماكن المقدسة ومهبط الرسالة الإسلامية.
هذا الطابع الذي جعل منها نموذجاً دينياً وحضارياً ذا مرجعية إسلامية تختلف، إن لم تكن تتعارض في كثير من جوانبها ومنطلقاتها مع المرجعية الدينية والقيمية للولايات المتحدة الأميركية، ذات الجذور اليهودية والمسيحية، ذات الطابع الصراعى الاستعلائي الاستبعادى، الذي يقوم ليس فقط على نفي الآخر، ولكن أيضاً على العمل على القضاء عليه وتدميره، كعقيدة وفكر ومنطلق، رسخته الولايات المتحدة عبر رحلتها منذ اكتشافها على يد الرحالة الأوربيين، وحتى الآن.
وليست المملكة استثناءً من هذه القاعدة، فلا مجال في السياسة الأميركية للقبول بالآخر والاختلاف معه، ولكن إذا ظهر أن هذا الآخر يمكن أن يؤثر على مصالحها وأهدافها، فلا بد من العمل على القضاء عليه، ووضع الركائز التي يمكن من خلالها تحقيق هذا الهدف في الوقت المناسب، ومن هنا تبنت الولايات المتحدة سياسة احترازية ضد المملكة، قامت علي قياس مستوى التراكم الكمي للبعد الإسلامي في السياسة السعودية مستقبلاً، ومدى قدرتها على تشكيل تأثير على مكانة الولايات المتحدة، في الإطارين العربي والإسلامي، ومن هنا بدأت بوضع أسس لمصادر توتر قابلة للتحريك سواء داخل المملكة نفسها، أو داخل إقليمها الجغرافي، يمكن للولايات المتحدة أن تستخدمها عند الضرورة. ولم تكن هذه السياسة موجهة ضد المملكة في ذاتها، ولكنها كانت موجهة بالأساس ضد النموذج الحضاري الذي تمثله المملكة، والذي ينطلق من الإسلام كإطار مرجعي.
ومن هنا شهدت مرحلة ما بعد أحداث سبتمبر 2001، اهتزاز التحالف الاستراتيجي بين الولايات المتحدة والمملكة، بسبب تزايد مؤشرات التدخل الأمريكي في الشؤون الداخلية السعودية ـ مع تزايد إدراك الولايات المتحدة لما تعتبره تهديداً لأمنها، لاعتبارات نابعة من طبيعة النظام السعودي، وذلك تحت تأثير رؤية الإدارة الأمريكية للحرب علي الإرهاب، تلك الرؤية التي تنبع في جانب كبير منها من إطار مرجعي ديني صاغته تيارات اليمين الديني ـ وانعكاس هذه الرؤية علي توجهات وقضايا وأدوات السياسة الأمريكية تجاه السعودية، تحقيقاً للمصالح الاستراتيجية الأمريكية في المنطقة، وكذلك على طبيعة العلاقة بين البعد الديني والبعد المصلحي في السياسة الأميركية بصفة عامة، وتجاه العالم الإسلامي والمملكة العربية السعودية بصفة خاصة.
وفى إطار هذه الاعتبارات، خلصت دراسة “السياسة الأميركية تجاه المملكة العربية السعودية: دراسة في تأثير البعد الديني”، إلى عدد من النتائج الأساسية، هي:
أولاً: أن السياسة الخارجية، كعملية، لا تقوم فقط على الشق الرسمي، الذى تضطلع به الجهات والهيئات والمؤسسات الحكومية، ولكنها تتضمن كذلك مواقف القوى المؤثرة في عملية صنعها، سواء كانت هذه القوى تيارات فكرية (دينية أو سياسية)، أو قوى اجتماعية فاعلة، أو مراكز بحثية، معنية بعملية صنع السياسة الخارجية، وهو ما يتطلب مراعاة طبيعة مواقف هذه القوى ودرجة تأثيرها، عند تحليل السياسة الخارجية لدولة من الدول، خاصة مع وجود العديد من المؤشرات عن بعض الحالات والتجارب التي تشير إلى أن هذه القوى تمارس تأثيرا كبيرا على بعض الجهات والهيئات الرسمية.
ثانياً: أن تأثير البعد الديني في السياسة الخارجية، تأصيلاً وممارسة لم يقف فقط عند دراسة الواقع الراهن للسياسة الخارجية، ومكوناتها، ولكنه امتد ليطرح العديد من الإسهامات سواء على مستوي التأصيل النظري للسياسة الخارجية (من خلال المداخل التحليلية والاقترابات المنهجية) أو على مستوى الممارسة (من خلال التأثير في مكونات هذه السياسة، وتقديم فاعلين جدد، وإثارة قضايا جديدة تشكل الأبعاد القيمية والدينية، أهم ركائزها ومنطلقاتها، وكذلك طرح عدد من العمليات ذات الطبيعة القيمية والدينية لتكون في مقدمة آليات دول العالم، خاصة الكبرى منها، في تنفيذ سياستها الخارجية).
ثالثاً: أن طبيعة الثقافة السياسية في المجتمع الأميركي، وموقع الدين فيها، وكذلك تأثير التيارات الدينية والفكرية، والأفكار والمعتقدات الدينية للقيادة السياسية، شكلت أهم المحددات الداخلية لتأثير البعد الديني في السياسة الخارجية الأميركية، فالدين هو الأصل في قيام المجتمع الأميركي، فهو متصل بعادات الأمة، وبقيمها الوطنية، مما يجعل له قوة خاصة. كما أن الدين في الولايات المتحدة قد وضع حدودًا لنفسه بنفسه، وظلت المؤسسات الدينية منفصلة عن المؤسسات السياسية، مما مكن للقوانين أن تتغير بسهولة، مع بقاء المعتقدات القديمة ثابتة. واحتفظ الدين المسيحي بسيطرة كبيرة على عقول الشعب الأميركي”.
وقد عبرت المؤثرات الدينية والأخلاقية عن نفسها، في السياسة الأميركية، في العديد من المظاهر، والممارسات، عبر مراحل تطورها التاريخية، وخلالها اختلفت التوجهات، وتعددت السياسات، والتي تصب في المحصلة النهائية، في اتجاه التأكيد على هذا البعد، بطرق مباشرة أو غير مباشرة، سواء تم استخدام الدين بلفظه واصطلاحه، أو تم استخدامه في ثنايا مصطلحات ومفاهيم أخرى كـ “القيم الأميركية و”الأخلاق الأميركية”، و”الأيديولوجية الرأسمالية”، أو “الثقافة الأميركية”، أو غيرها من مفاهيم تتداخل مع المفهوم، وتعطى نفس مضامينه.
رابعاً: أن تأثير الدين في السياسة الخارجية الأميركية، ليس وليد المرحلة الراهنة، وليس مرتبطاً بطبيعة القيادة السياسية وتكوين الإدارة المحافظة الحاكمة في ظل رئاسة بوش فقط، ولكنه ممتد الجذور عبر المراحل المختلفة التي مر بها تاريخ الولايات المتحدة، ولكن الجديد هو حجم هذا التأثير، والذي شهد تصاعدا كبيراً مقارنة بكل المراحل السابقة، وجاء هذا التصاعد مرتبطاً، في شقه الداخلي الخاص بالولايات المتحدة، بطبيعة الظرف التاريخي الذي شهدته ممثلاً في أحداث سبتمبر، مع تنامي تأثير التيارات الدينية واليمينية في المجتمع الأميركي، مع وجود قيادة سياسية مهيأة للاستجابة لهذا التأثير، وتملك مقومات القدرة على نقل القناعات الذاتية إلى ممارسات فعلية. وهو الأمر الذي كشف عن تقاليد استراتيجية أميركية راسخة نحو التوسع والهيمنة في رداء جديد، وتحت دوافع دينية تترابط بقوة مع الدوافع الاستراتيجية والمصلحية.
ولكن مع التأكيد في هذا السياق على أن الدين في ذاته، ليس مصدراً دافعاً للصراع والرغبة في السيطرة والهيمنة والتفرد واستئصال الآخر، ولكن ذلك يتوقف على كيفية تطبيق هذا الدين وتفسير الأطراف الفاعلة في السياسة الخارجية لمقولاته ومنطلقاته وغاياته، وكذلك طبيعة الجذور والخبرات التاريخية التي تمت في إطار كل دين، وهنا تبرز خبرة النموذج الحضاري الإسلامي، والتي تبين كيف أن هذا النموذج يعكس رؤية تعارفية تعددية، في مقابل النموذج الحضاري الغربي المستند إلى التقاليد المسيحية اليهودية التي تقوم في جانب منها، وفق تطبيقاتها وخبراتها المختلفة على طابع صراعي استئصالي.
ومن هنا فإن الاحتجاج بالنموذج الديني اليميني الذي مثلته إدارة الرئيس جورج دبليو بوش وقواه اليمينية (2000 ـ 2008)، للقول بتهميش البعد الديني في السياسة الخارجية، ليس أمراً منطقياً، من الناحية المعرفية والفكرية والسياسية، فالمهم هو بيان الفارق بين نموذج بوش، والتيارات التي تدعمه، والمداخل الفكرية التي يرتكز عليها، وبين نماذج أخرى ذات مرجعية دينية مختلفة، تتعارض مع طبيعة النموذج الذي قامت عليه إدارة بوش، مع أهمية إبراز الفارق بين “الدين”، في كل نموذج، وليس فقط “الديني” فيها.
خامساً: أن أحداث سبتمبر 2001، شكلت العامل الأوسع والأكبر تأثيراً، من حيث انعكاساته على الولايات المتحدة الأميركية، بل وعلى العلاقات الدولية في المرحلة التالية، حيث كانت مقدمة للعديد من السياسات والإجراءات التي تبنتها الولايات المتحدة ضد الدول العربية والإسلامية، وفرصة لها لفرض المزيد من الضغوط على هذه الدول وفى مقدمتها المملكة، وكان النموذج الإسلامي الذي تجسده المملكة، أهم الأبعاد التي توجهت إليها الضغوط الأميركية في تعاطيها مع المملكة بعد أحداث سبتمبر، حيث كان محوراً للعديد من التوجهات والسياسات التي تنبتها الإدارة الأميركية، في محاولتها لاحتوائه من ناحية، وتهميشه من ناحية ثانية، وتفكيكه من ناحية ثالثة.
وقد جاء تنامي تأثير البعد الديني في السياسة الأميركية، خلال هذه المرحلة محصلة للعديد من الاعتبارات التي شكلت محددات دافعة نحو تصاعد هذا التأثير، جاء بعضها نابعاً من الداخل الأميركي، وتمثل في موقع الدين في الثقافة السياسية الأميركية، وتصاعد تأثير العديد من تيارات اليمين الديني والسياسي في المجتمع الأميركي، والمعتقدات الشخصية للرئيس الأميركي بوش، وارتبط البعض الآخر بعدد من الاعتبارات الخارجية، تمثل في الرؤية القيمية التي تحكم التوجهات الأميركية، والتي تستند إلى جذور مسيحية يهودية، ذات طابع صراعى استعلائي، تسعى إلى الهيمنة، وفرض نموذجها القيمي والحضاري على مختلف الديانات والثقافات والحضارات، تحت ذريعة الدور الرسالى الذى أنيط بها.
وفي إطار هذا الدور الرسالي، لم تكن ثمة ثنائية بين البعدين الديني والمصلحي، في الاستراتيجية الأميركية، فهذا المنظور يقوم على تسكين البعد الديني في نسيج واحد مع غيره من الأبعاد، وليس في ثنائيات متقابلة، كما يحاول البعض تصويرها، ليعلي من تأثير البعد الديني في مرحلة، ويقول بتراجعه في مرحلة أخرى، وهذا غير وارد في سياسات القوى الكبرى، التي تقوم على المزج بين مختلف الأبعاد، وفق مرجعيتها الفكرية، وتوجهاتها القيمية، ومصالحها الاستراتيجية.
سادساً: أن السياسة الأميركية ليست صنيعة الإدارات والمؤسسات والهيئات الرسمية فقط، ولكن يشارك في صنعها شبكة واسعة من الجهات والهيئات غير الرسمية، وكذلك فريق واسع من المفكرين، الذين يقدمون السلاح الفكري الضروري، للدفاع عن القيم الأمريكية، مؤكدين أنه عندما تختار الولايات المتحدة البقاء خارج النزاع، فإن عدالة قضيتها، وحقها في التدخل في بعض النزاعات المستقبلية يظل محفوظاً لها، من وجهة نظر هؤلاء المفكرين، الذين تكشف سيرهم الذاتية، أن عوالم الثقافة والعلوم، والحكومة، والشركات الكبرى، مرتبطة ببعضها البعض بباب دوار. وإذا كانت الوظائف الأكاديمية في العلاقات الدولية، أو الدراسات الاستراتيجية مرتبطة بالوظائف داخل الحكومة الأمريكية، فمن الصعب أن يغامر هؤلاء بدورهم في صنع السياسة الخارجية، وبالتالي تبدو العلاقة بين عالم الثقافة والفكر من ناحية، وصنع السياسة من ناحية أخرى، طبيعية وصحيحة بالنسبة للمسئولين بالحكومة.
وفى إطار هذا التأثير نجد أن غلبة التوجهات السلبية ضد المملكة، بعد أحداث سبتمبر 2001، تجد سندها الأكبر في وجود شبكة من التيارات الفكرية والمراكز البحثية والمؤسسات الحقوقية، المضادة للمملكة في المجتمع الأميركي، والتي فشلت حملة العلاقات العامة التي تبنتها المملكة في أعقاب أحداث سبتمبر، داخل المجتمع الأميركي في احتوائها، وتعديل توجهاتها، بينما اقتصرت المواقف الإيجابية على عدد من التصريحات المقتضبة، ذات طابع دبلوماسي، يحافظ على الحد الأدنى اللازم لاستقرار العلاقة بين الدولتين، وهو ما يشير إلى أن التحالف الاستراتيجي بين الولايات المتحدة والمملكة، لم يكن كافياً لتشكيل صورة إيجابية للمملكة في المجتمع الأميركي، وخاصة بين الفعاليات غير الرسمية المؤثرة في صنع وتوجيه السياسة الأميركية، والتي تحكمها بالأساس توجهاتها الفكرية ومنطلقاتها الثقافية والدينية المضادة للمملكة. الأمر الذي يعكس تأثير الأبعاد القيمية والدينية في تشكيل توجهات السياسة الأميركية تجاه المملكة، وتصاعد تأثير الداخل الأميركي في هذه السياسة، والتي امتدت إلى الداخل السعودي، بما يعني، “تأثير الداخل الأميركي”، في “الداخل السعودي”، عبر السياسة الأميركية، التي تشكل حلقة الوصل بين الداخلين.
سابعاً: شكلت حرب الأفكار، الإطار العام والمحرك الرئيس للتوجهات الأميركية نحو القضايا الداخلية في المملكة العربية السعودية، خلال الفترة محل الدراسة، وانطلقت هذه الحرب من أن المملكة لا بد أن تشهد تغييرا جذرياً في مختلف المجالات، من شأنه إحداث تحولات عميقة في البيئة الفكرية والثقافية وكذلك في الخصوصية الحضارية التي تتسم بها المملكة، وأن هذا لن يتحقق إلا من خلال خلق حالة من الجدل العام حول هذه البيئة وتلك الخصوصية وما تقوم عليه من معتقدات ومرجعيات. وكان التعليم والحرية الدينية والإصلاح السياسي والمجتمعي، أهم القنوات التي تمحورت حولها السياسات الأميركية خلال هذه المرحلة.
إلا أنه رغم المواقف الأميركية الخاصة بالحرية الدينية التي تؤكد على وجود انتهاكات لهذه الحرية في المملكة، فإن الإدارة الأميركية لم تتخذ أية إجراءات لمواجهة هذه الانتهاكات، بل في المقابل اتجهت إلى تأجيل العقوبات التي يمكن أن توقع على المملكة بوصفها “دولة ذات وضع مثير للقلق الخاص”، حسب قانون الحرية الدينية، وجاء هذا التأجيل ليتفق وطبيعة السياسة الأميركية، وأولوياتها في كل مرحلة، حيث وجدت الإدارة الأميركية أن توقيع مثل هذه العقوبات من شأنه أن ينال من تحالفها الاستراتيجي مع النظام السعودي، ويسبب حرجاً لهذا النظام، قد يدفعه لتنبي بعض الإجراءات التي لا تتفق والمصالح والتوجهات الأميركية، التي يعتبر شريكاً أساسياً فيها، كالحرب على الإرهاب، والتوازنات الإقليمية في المنطقة، وكذلك في مواجهة تداعيات الأزمة المالية العالمية، التي كانت الولايات المتحدة أكثر المتضررين منها، في ولاية بوش الثانية، ووجدت أن المملكة يمكن أن تساهم بفاعلية في الحد من هذه التداعيات.
كما أن الإدارة الأميركية رغم ضغطها على العديد من الدول العربية، وطرحها العديد من المبادرات ذات الصلة بالإصلاح السياسي، إلا أن هذه الضغوط وتلك المبادرات، لم تكن ذات جدوى فيما يتعلق بالمملكة وغيرها، حيث اقتصر الأمر على بعض التصريحات الإعلامية، بل ووصل الأمر إلى إشادة بعض المسئولين الأميركيين بما أسموه “جهود الإصلاح السياسي في المملكة”. ولكن في المقابل كانت المواقف الأميركية غير الرسمية، أكثر حدة في نقدها للمملكة ونموذجها الحضاري ونظامها السياسي، ووصل الأمر ببعضها لإثارة قضايا تقسيم المملكة إلى عدة دول، حتى تسهل السيطرة عليها. وهو ما يؤكد وجود تيار داخلي قوى ومؤثر في المجتمع الأميركي، يتعامل مع المملكة، بإمكاناتها الاقتصادية، ومرجعيتها الدينية ونموذجها الحضاري على أنها تحد كبير لأمن واستقرار الولايات المتحدة، ويضع الخطط ويقدم الأطروحات التي يمكن من خلالها التعامل مع هذا التحدي، حالياً ومستقبلاً، لتكون هذه الخطط جاهزة للتنفيذ حال توفر الظرف الدولي المناسب وحال وجود الإرادة السياسية الأميركية لذلك، كما حدث في أطروحات المحافظين الجدد التي وضعت في الثمانينيات والتسعينيات من القرن العشرين، وتم وضعها موضع التنفيذ في السنوات الأولى من القرن الحادي والعشرين.
ثامناً: شكلت الحرب على الإرهاب، الإطار العام الحاكم للسياسة الأميركية، تجاه القضايا الإقليمية والدولية ذات الصلة بالمملكة العربية السعودية، خلال الفترة محل الدراسة، وكان ذلك نتيجة طبيعية لتداعيات أحداث سبتمبر 2001، وأمام هذه المحورية للحرب على الإرهاب، فقد ارتبطت بالعديد من القضايا الأخرى، التي كانت محلاً لاهتمام السياسة الأميركية، مثل قضية العمل الخيري وتمويل الإرهاب، والقضية العراقية، بجانب القضايا التقليدية التي تمحورت حولها السياسة الأميركية في المنطقة، كالصراع العربي ـ الإسرائيلي، وأمن الخليج والتوازن الإقليمي في منطقة الشرق الأوسط.
وقد شكلت هذه القضايا، الجديدة والتقليدية، محوراً للتفاعل بين الولايات المتحدة، والمملكة، وتشابكت فيها العديد من الأبعاد السياسية والاقتصادية والأمنية والثقافية والحضارية، وبين هذه الأبعاد برز تأثير البعد الديني في السياسة الأميركية تجاه المملكة، سواء على مستوي التوجهات أو السياسات التي قامت عليها هذه السياسة، فتم الربط بين “القضاء على الإرهاب” و”القضاء على الإسلام”، والربط بين “ضبط العمل الخيري” و”القضاء على فريضة الزكاة وتحجيم الصدقات”، كما تم الربط بين “غزو العراق”، و”تحقيق نبوءات الكتاب المقدس”.
ومن واقع تحليل هذه القضايا يمكن القول أنها تمتعت بالأولوية في السياسة الأميركية تجاه المملكة مقارنة بالقضايا الداخلية في المملكة، فالولايات المتحدة في إثارتها للقضايا الداخلية، كانت تستهدف الضغط على المملكة لتتوافق مع التوجهات الأميركية، فيما يتعلق بالقضايا الخارجية، وبما يتفق والأهداف التي تسعى إلى تحقيقها، فالولايات المتحدة لم تكن تسعى لإصلاح فعلى داخل المملكة، أو تغيير في مناهجها التعليمية، لأنها تعلم أن التدخل في هذه القضايا من شأنه أن يثير عليها العديد من التوترات، أمام الطابع المحافظ للمجتمع السعودي، ولكنها أرادت توجيه رسالة للنظام السعودي، أن قضاياه الداخلية ليست بعيدة عن الاهتمام، وأنها من الممكن أن تشكل سبيلاً للتدخل في أوضاع المملكة ليس فقط من خلال السياسة الأميركية الرسمية، ولكن كذلك من خلال السياسة غير الرسمية، وأدواتها وقنواتها متعددة المسارات.
وقد أثمر الضغط الداخلي عن العديد من التوافقات بين السياسة السعودية والسياسة الأميركية، تجاه القضايا الدولية والإقليمية محل الاهتمام المشترك، فكانت المملكة أقرب للأداة منها إلى الحليف الاستراتيجي للولايات المتحدة، في إدارة هذه القضايا، وكانت نتيجة هذا الضغط أكثر بروزاً في قضية العمل الخيري، للدرجة التي معها تم تشكيل لجان وفرق عمل مشتركة أميركية ـ سعودية، للتدقيق ومراقبة وإعادة هيكلة العمل الخيري السعودي ليس فقط خارج المملكة، ولكن داخلها.
كما كانت المملكة أداة استخدمتها الولايات المتحدة لموازنة الدور الإيراني في العراق، وفى لبنان، وفى فلسطين، وأداة لتسوية الأوضاع في العراق، وتسوية الخلافات بين الفصائل الفلسطينية، خشية احتوائها من جانب إيران، وأداة في الصراعات المذهبية التي حاولت الولايات المتحدة إثارتها في المنطقة، في إطار سياسة التفتيت الديني والمذهبي التي تبنتها، سواء بين دول المنطقة وبعضها البعض كالصراع المذهبي بين إيران من جانب والدول العربية من جانب آخر، أو بين السنة والشيعة داخل العديد من الدول العربية، كالعراق ولبنان، بل وداخل المملكة ذاتها، كخطوة مرحلية وأداة مؤجلة قابلة للاستخدام عندما ترغب الولايات المتحدة في إثارتها وتحريكها.
وكانت القضية المذهبية، أهم الأدوات التي اعتمدت عليها السياسة الأميركية، في إدارتها للقضايا التقليدية ذات الصلة بالمملكة كأمن الخليج والتوازن الإقليمي، وأيضاً قضية الصراع العربي ـ الإسرائيلي، التي اعتمدت في إدارتها كذلك على المملكة كأداة من خلال العديد من القنوات، كطرح المبادرات للتسوية بين العرب وإسرائيل (مبادرة 2002)، والتسوية بين الفصائل العراقية (اتفاق مكة، أكتوبر 2006)، والتسوية بين الفصائل الفلسطينية (اتفاق مكة، فبراير 2007) والتطبيع غير الرسمي مع اليهود (مبادرة حوار الأديان).
وجميعها أدوار جديدة على السياسة السعودية، لم تشهدها في مراحل سابقة من تطورها، باستثناء لحظات استثنائية، برزت في عدة مواقف كالحظر النفطي عام 1973، واتفاق الطائف الذي تم توقيعه لتسوية الحرب الأهلية اللبنانية، عام 1989.
وأمام التعدد في القضايا والأدوات وكذلك القنوات التي قامت عليها السياسة الأميركية تجاه المملكة، وما صاحبها من ضغوط، فإن درجة هذه الضغوط كانت أقل حدة في فترة الرئاسة الثانية للرئيس بوش عنها في الفترة الأولى، نتيجة للعديد من الاعتبارات، منها: تراجع النزعة للانتقام بعد حربي أفغانستان والعراق، والاستقرار النسبي للأوضاع في العراق، وتزايد أهمية المملكة في مواجهة أزمة البرنامج النووي الإيراني، وفى مواجهة تداعيات الأزمة الاقتصادية العالمية، التي كانت الولايات المتحدة من أكثر دول العالم تضرراً بتداعياتها.
تاسعاً: أنه من غير الصحيح القول بأن الولايات المتحدة لم تنطلق في تعاملها مع العالم العربي من رؤية أيديولوجية أو عقائدية فقط، وإنما كذلك من رؤية براجماتية عملية واضحة لمصالحها في العالم العربي في إطار رؤية استراتيجية أكثر وضوحا لمصالحها الكونية. ولذلك غلب على سلوكها، حتى أحداث سبتمبر، طابع براجماتى يتناسب مع خصائص وسمات الدولة والنظام السياسي والنخبة الأمريكية. وأنه من خلال هذا النهج اكتشفت الولايات المتحدة أن العالم العربي ملئ بالتناقضات التي يسهل استخدامها وتوظيفها لبلورة سياسة قادرة على تحقيق مصالحها الاستراتيجية. وأن المتغيرات التي طرأت على النظام العالمي وعلى الولايات المتحدة، في ضوء ما حدث لها في سبتمبر 2001، دفعتها لتغيير نهجها البراجماتى واستبداله بآخر ينطلق من رؤية أيديولوجية أو عقائدية واضحة ومتكاملة، صاغها جناح يميني شديد التطرف، كشفت عنها أحداث سبتمبر 2001، ولم تكن منشئة له.
فالولايات المتحدة، في سعيها لفرض نموذجها الحضاري، وربط تحقيق هذا النموذج بدورها الرسالى في العالم، زاوجت في استراتيجيتها، منذ استقلالها وحتى الآن بين البعدين الديني/ القيمي، والمصلحي/ الاستراتيجي، ولم يتم تغييب أو تهميش أي من هذين البعدين عبر مختلف مراحل تطورها، سواء كان هذا التطور للداخل عبر الولايات الأميركية، وفرضه على مختلف العرقيات والجنسيات التي يتكون منها المجتمع الأميركي، أو عبر توسعها للخارج، هذا التوسع الذى لم تكن بدايته الآلة العسكرية أو الاقتصادية الضخمة التي تمتعت بها الولايات المتحدة، ولكن أيضاً أدوات القوة المرنة كالثقافة والفكر والإرساليات الدينية والمعاهد الثقافية والمؤسسات التعليمية، ثم أدوات القوة الصلبة في مرحلة تالية، وتحديداً مع تطورات الحرب العالمية الأولى.
عاشراً: أنه أيا كانت التفسيرات والتفسيرات المضادة، لتأثير البعد الديني في السياسة الأميركية، فإنه يمكن القول أن هذا البعد كان حاضراً وبقوة، كإطار مرجعي للسياسة الأميركية، وأنه إذا كان الدين في السياسة الأمريكية ليس مصدراً مباشراً للقوانين ولا يؤثر في تشكيل الرأي العام إلا تأثيراً ضئيلاً، فإنه يوجه عادات المجتمع وقيمه ورؤيته للحياة بجوانبها المختلفة، وينظم الدولة عن طريق العديد من المؤسسات، وإذا كان الدين لا يشترك اشتراكا فعلياً في الحكم، فإنه يأتي في طليعة المؤسسات السياسية التي تنظم العملية السياسية داخلياً، كما تعتمد عليه السياسة الخارجية في صياغة وتحديد توجهاتها، وكأداة من أدواتها، ثم إطاراً مرجعياً لها.
مع التأكيد في الوقت نفسه على الطبيعة المعقدة والمتشابكة للعلاقات الدولية، وفى القلب منها السياسة الخارجية، والتي لا يصح معها القول بأحادية تفسير ما تشهده من توجهات وسياسات، وردها إلى عامل واحد دون غيره، أو تغليب عامل على آخر، ولكن مع مراعاة أولوية تأثير بعض الاعتبارات، وفقاً لطبيعة المرحلة التي تمر بها هذه العلاقات وتلك السياسات وما تشهده من تحولات وتطورات (1).
Previous Post
Next Post

About Author

0 comments: