Tuesday, April 9, 2013

وادي الحجير: في التاريخ والجغرافيا..... والمقاومة
حسن دياب الإسماعيل 


بمناسبة مرور تسعين عاماً على انعقاد مؤتمر وادي الحجير

خذل بعض الزعماء (النافذين) مؤتمر وادي الحجير العام، المنعقد على رأس نبع الحجير، في 24 نيسان/ أبريل العام 1920. والذي دعا في حينه إلى مقاومة الاحتلال الفرنسي، والانضمام إلى الدولة العربية الناشئة في بلاد الشام... ولكنّ الوادي ثأر بعد 86 سنة، وبضعة أشهر، من تيار الخذلان والانحراف. ومسايرة القوة على حساب الحق: فكان مقبرة الغزاة الصهاينة ودباباتهم، في معركة هي الأكثر شهرة في الحروب العربية - الإسرائيلية، بل وفي معارك العصر الحديث. 
وقد كانت آلام مخاض هذه الحرب العدوانية - كما استبشرت، وبشّرت، كونداليزا رايس - إيذاناً بولادة (الشرق الأوسط الجديد) فإذا بها آلام دفن المولود الصهيو - أميركي، ودفن آمال من والاه، واستبشر به، في مقبرة وادي الحجير المشهورة.


قبل أن نلج إلى توصيف سريع للمعارك - الكمائن، التي بدأت من «تلّة العويضة» - العديسة، على تخوم فلسطين المحتلة.. وتوالت حتى معركة الغندورية فرون، وسريان (وقف الأعمال الحربية) حسب القرار (1701) الدولي، لا بد من تعريف بوادي الحجير: بيئوياً وجغرافياً، لنستعرض، في ما بعد، دوره التاريخي في الدعوة إلى مقاومة الاحتلال الفرنسي، أو بعبارة أدق، لإسباغ شرعية شعبية، دينية، وزعماتية، على مقاومة للاحتلال الفرنسي، كانت قد بدأت قبل مؤتمر وادي الحجير فعلاً، وهي التي اختارته مكاناً للمؤتمر، لدواعٍ أمنية و (لوجستية) و... سياسية.


إنه واد عميق الغور، ذو شعاب كثيرة وعرة، وسفوح سريعة الانحدار، شجيرة خضراء، يقع بين أقضية مرجعيون وبنت جبيل والنبطية وصور، ويمتد من مجرى نهر الليطاني في قعقعية الجسر، في أسفل مدينة النبطية.. حتى بلدة عيترون في قضاء بنت جبيل، ملاصقاً الحدود اللبنانية - الفلسطينية، وتجاوره قرى عديدة، منها: قرى قبريخا، مجدل سلم، تولين، الطيبة، القنطرة، علمان، الغندورية، وفرون...
وتقول غنوة ملحم: إن وادي الحجير «أصبح ملتقى الجنوبيين واللبنانيين، حيث يغص يومياً بالأهل والأحبة، الذين أرادوا زيارة هذا المكان، مرة، للذكرى والهدوء والراحة، ومرة للتحدي والوقوف حيث وقف أبطال المقاومة وشهداؤها». 
فقد عادت مياه نبع الحجير للتدفق بغزارة، بعد أن جفت مياهه... وروعة مطاحنه الثماني القديمة«. وتؤكد أنه «وبرغم تدمير المطاحن والقضاء على أشجار الزيتون المعمّرة خلال حرب تموز/يوليو 2006، قد عاد الأهالي يقصدون الأماكن المحاطة بالمياه، يمارس بعضهم هواية السباحة، ويتوزع البعض الآخر تحت الأشجار، وداخل البساتين المحيطة بالمطاحن القديمة، ويقضون أوقاتاً عائلية ممتعة».
والجدير بالذكر، حسب موسوعة الحرة، أن وادي الحجير، من المواقع المحمية بموجب قرارات وزارة الزراعة، فالمناطق الحرجية في وادي الحجير/قضاء بنت جبيل هي «من أكثر المناطق الحرجية عذرية».


«مقبرة الغزاة ودباباتهم» في وادي الحجير


انشغلت الصحف على نطاق العالم بتحليل مجريات معركة وادي الحجير، وعجز الجيش الصهيوني بآلة الحرب الهائلة والحديثة عن تحقيق هدفه المعلن بالوصول إلى نهر الليطاني، عبر أقصر مسار، وخصوصاً الصحافة الغربية الموالية للعدو، وصحافة العدو على نحو أخص.. وقد نقلت عنها، صحيفة السفير اللبنانية بتاريخ 6 تموز/يوليو2007، تحت عنوان «قصص حرب تموز، يرويها المقاومون: وادي الحجير الحرب الكبرى» كيف أن شهادة أحد الضباط الإسرائيليين، فضحت أسطورة «الجيش الذي لا يقهر»، وأنها مجرد وهم مغلّف بالعتاد والعديد، «وهو يروي كيف بلع جندي لسانه، وتوقّف قلبه، نتيجة الخوف، بعدما زنرهم رجال المقاومة بـ270 درجة من النيران».
ولقد كان قائد المقاومة، السيد حسن نصر الله، دقيقاً، و)صادق الوعد)، منذ اللحظة الأولى، إذ تحدّى العدو: أردتموها حرباً مفتوحة... فلتكن... ومعادلتنا بسيطة: كلما تقدّمتم شبراً في أرضنا، تعرضتم لضربات المقاومة.. وفي خطبه العديدة، أكد جهوزية المقاومين في كل وادٍ وعند كل منعطف، وفوق كل تلة ستجدوننا بالمرصاد.
ولقد كانت المعارك - الكمائن، وصولاً «للحرب الكبرى في الحرب الكبرى» أو معركة وادي الحجير، كما سماها الإسرائيليون أنفسهم، ترجمة ميدانية لما توّعد به قائد المقاومة توّغل العدو في الأرض الجنوبية اللبنانية، ومن أقصر الطرق للوصول إلى الليطاني، بعد أن فشل في هجومين على عاصمة الجنوب الأمامي (بنت جبيل)، وهي الأقرب إلى الجليل الفلسطيني المحتل، ليصل جيشه إلى الملعب الذي احتفلت فيه المقاومة بدحر الاحتلال في العام 2000، حيث وقف السيد حسن نصرالله خطيباً، واصفاً (إسرائيل) بأنها «أوهن من بيت العنكبوت»، وكان (أولمرت) رئيس الوزراء الصهيوني، يريد أن يقف في المكان ذاته لينفي عن دولته «وهن بيت العنكبوت»، فكان أن تكّبد جيشه خسائر هجومين فاشلين، دون تحقيق هدفه الرامي إلى رفع معنويات جيش العدو وشعبه، إذ كان هذا الوصف، كما ذكرت الصحف الإسرائيلية في حينه، قد أصاب قيادة أركان العدو، بما يشبه الجنون، من شدة الغضب، ولاسيما بعد اندحارهم المذل.

امتدت المعارك مع كمائن المقاومة من (تلة العويضة) عند قرية (عديسة) المتاخمة للجليل الفلسطيني المحتل، حيث جرت الضربة الأولى لرأس الأفعى الصهيونية، إلى كمين (رب ثلاثين) الذي أربك الغزاة بعد استدراجهم للوقوع في هذا الكمين. إلى كمين مشروع الطيبة، وتدمير اثنتي عشرة (12) جرافة حربية، وهي تجرف كل ما يعيق تقدم العدو، قبل تدمير ثلاثين دبابة (ميركافا 4)، من بينها (16) دبابة في يوم واحد، كما صرّح الحاج جهاد، القائد الميداني لمعارك وادي الحجير، لصحيفة السفير «مما أدى إلى تأخير محور تقدم الغزاة نحو الحجير ثمانية أيام، وكان الإسرائيليون ينكفئون نحو سهل عديسة - رب ثلاثين، بعيداً عن مرمى نيران الكمين المحكم»، ثم إلى معارك النزول من الطيبة إلى وادي البراك، فوادي الحجير.. حتى اليوم الثلاثين للعدوان، واتخاذ الأمم المتحدة القرار (1701) بوقف الأعمال الحربية.. لكن أولمرت رئيس حكومة العدوان، طلب من حليفه الاستراتيجي، الرئيس الأميركي جورج بوش «مهلة ثلاثة أيام إضافية قبل الشروع بتنفيذ القرار» حيث بدأ الإسرائيليون يحشدون رتلاً آخر من الدبابات، في محاولة جديدة، للتقدم باتجاه وادي الحجير، على أمل الوصول إلى الليطاني، وبعد تدعيمه حاول الرتل التقدم نحو وادي البراك، وقد استخدم العدو تكتيكاً، كما يشرح القائد الحاج جهاد، يقضي «بإخراج سرايا جانبية على حوافي الرتل لتأمينه، وهو ما يعرف عسكرياً بالمجنبات» لرصد الكمائن ومواجهتها، قبل التحاقها بالرتل الرئيسي... لكن المقاومين كانوا قد جهزوا لمحاولات التقدم هذه، كميناً مركباً بالمعنى العسكري (عبارة عن عبوات مزروعة، وأسلحة صاروخية، ورشاشة، ومنحنية.. وقد تم تفجير الشراك الناسفة (العبوات) بالرتل والمشاة، مما أوقع عدداً كبيراً من القتلى والجرحى، فضلاً عن تدمير الآليات.
في الوادي، وبعد المواجهات التي بدأت - كما أسلفنا - عند تلة العويضة (عديسة) وتلة العقبة (رب ثلاثين)، ومرتفع مشروع مياه الطيبة، وجبل وردة (مركبا)، وفي اليوم السادس عشر لعدوان الثلاثة والثلاثين يوماً، عمد الغزاة الصهاينة، في اليوم الثلاثين للعدوان، إلى التقدم ليلاً باتجاه وادي الحجير، تفادياً لتعريض دباباتهم ومشاتهم، لنار المقاومين في وضح النهار.. لكن المقاومين كانوا قد تحضروا لملاقاتهم.. علماً بأن حجم قوات العدو، على محاور قتال معركة وادي الحجير الإجمالية، بدأ بالفرقة المؤللة، من اللواء المدرع الثاني (401) ولواء المشاة الخاص (ناحال) ولواء المشاة الأول، مع كتيبة (غولاني)، وكتائب من المظليين، و)جفعاتي)، والهندسة، والاستخبارات... وتعرف هذه المجموعة بالفرقة (الفولاذية 162).
أحكم المقاومون نصب كمائنهم، القريبة والبعيدة، ووزعوا العبوات.. وفي النتيجة اعترف العدو بخسارة فرقة مدرعات كاملة، وقد أحصى المقاومون (50) دبابة (ميركافا 4) معطوبة، عدا عن الجرافات العسكرية... فكانت بحق مجزرة وادي الحجير، أو وادي السلوقي، كما سموها..
وبوصولهم إلى الحجير، بالرغم من خسائرهم الفادحة، أرادوا رفع معنويات جيشهم والرأي العام الصهيوني، بأي ثمن، فنفذوا إنزال الغندورية، وهو الأضخم في تاريخ الجيش الصهيوني، لتطويق الغندورية وفرون، المشرفتين على الحجير، والتمكن من التواصل مع القوات في الوادي، أو تواصل قوات الوادي مع الإنزال الضخم.. لكن العبوات الناسفة على الطريق المتوقع لمرور المدرعات.. أدت إلى تغيير المسار.. حيث كانت صواريخ (كورنيت) تنتظرهم أيضاً، فدمرت العبوات (4) دبابات والصواريخ (6) ستاً منها. كلها من طراز (ميركافا 4) التي كسد سوقها، وفسخت العديد من الدول، عقود صفقات ضخمة لشرائها.. بالإضافة إلى سقوط 15 قتيلاً إسرائيلياً، من دون أن يتمكن الصاعدون من الحجير من الالتحام بإنزال الغندورية.. إلا لدى سريان تنفيذ القرار (1701)، وانسحاب المعتدين نحو فلسطين المحتلة خائبين، بعدما سموا فشلهم «الحرب الكبرى داخل الحرب الكبرى» ويقصدون معركة وادي الحجير، أو «معركة جهنم» أيضاً، حسب وصفهم.
دخلوا على هذا المحور وحده (وادي الحجير)، بتسعين دبابة وخمسة عشر ألفاً من الجنود.. لكنهم عادوا قطعاناً، كما وصف فيكتور هيغو، عودة جنود نابليون من معركة روسيا الخاسرة. وقد خسرت المقاومة خمسة شهداء، لا غير، في مواجهة إنزال الغندورية - فرون، والإنزال الأضخم في تاريخ الصهاينة، والذي كان يرمي إلى إنهاء المقاومة على هذا المحور، ليتوصل الرتل المدرع إلى بلوغ ضفاف الليطاني. ولقد صدق سعد علوه، حيث كتب في جريدة السفير، أن السحر انقلب على الساحر، وأصبح وادي الحجير رمزاً لهزيمة الصهاينة، وفخراً للمقاومة، و)تحفاً) لبعض أهالي الغندورية وفرون، الذين يحتفظون بقطع من جنازير دبابات العدو، حيث فتح وادي الحجير بوابة التاريخ الجديد.. المجيد.


مؤتمر وادي الحجير:
المقدمات والقرارات والنتائج


انعقد مؤتمر وادي الحجير في 24 نيسان/أبريل 1920 
لكن المكان والزمان، لا يحددان انطلاق المقاومة ضد الاحتلال الفرنسي، بل كانا نوعاً من إسباغ الشرعية الجهادية والوطنية على مقاومة، أو حرب «عصابات» حسب التسمية المتداولة حينذاك، كانت قائمة بالفعل، وهي التي حددت وادي الحجير، مكاناً للمؤتمر: حدد الثوار المكان، لأنه عرينهم، منه يغيرون، وإليه يؤوبون، فهم لا يأمنون الذهاب للطيبة ولا يريدون، لتذبذب مواقف الأسعد.
وقد تناول د. منذر محمود جابر، أحداث تلك الحقبة، بموضوعية أكاديمية استقصائية شاملة في أطروحته القيمة «السلطة في جبل عامل 1749 - 1920..» المقدمة لجامعة السوربون - باريس العام 1978، لنيل شهادة الدكتوراه، وفيها أن التيار العروبي ازداد قوة بازدياد تدهور الوضع العثماني، في الحرب العالمية الأولى 1914-1918، وبعدما أعلن أمير مكة المكرمة، الشريف حسين بن علي، ما سموه الثورة العربية الكبرى في حزيران/يونيو العام 1916، ضد الأتراك، وطلب ابنه، فيصل من زعيم جبل عامل، آنذاك كامل بك الأسعد، في رسالة منه حملها موفده إيليا خوري، تدعو الأسعد إلى طرد الأتراك، ورفع العلم العربي.. لم يستجب لها، مناوأةً منه، لرضا ورياض الصلح، وعبد الكريم الخليل وأنصار العروبة عموماً، وبعد أن تألفت حكومات مؤقتة، موالية لفيصل والحكم العربي الناشئ في دمشق، في صور، وفي صيدا والنبطية... سرعان ما حلّتها قوات الحلفاء، وبقيادة اللنبي، في 11 تشرين الأول/أكتوبر 1918، وبعد انعقاد المؤتمر العربي السوري العام في مطلع تموز/يوليو 1919، لتأكيد وحدة سورية الكبرى، والإصرار على استقلالها التام، وفيه أعلن الشيخ عبد الحسين صادق، ممثل جبل عامل، تأييد فيصل حتى الموت، بعد تقديم عريضة مئة شخصية عاملية، وقّعت على ذلك، وأن تكون سورية، بحدودها التاريخية شاملة فلسطين ولبنان وكل بر الشام دون حماية أو وصاية: بعد كل ذلك، ومعه، وبعد حل الحكومات المحلية: قامت حركة (العصابات) التي تجاوزت حرب العرائض والتواقيع، إلى الفعل والتمرد، مع اندلاع مواجهات خطيرة بين الفرنسيين والجماهير العربية في ضواحي طرابلس - الشام، وفي بعلبك ومرجعيون والجنوب وسواها، إثر توقيع اتفاق فيصل - كليمنصو المريب والمخيب للآمال.
وبالرغم من تسمية (العصابات) لثوار تلك المرحلة، وتعددها حتى بلغت اثنتي عشرة عصابة، منها عصابات: محمود الأحمدي البزي، بنت جبيل، موسى بوزاكلي - حولا، نمر الفاعور - الخيام، أدهم خنجر من المروانية (النبطية)، وصادق حمزة من دبعال (صور)، وكانت أقواها وأوسعها انتشاراً بقيادة هذا الأخير، ومحاربة الزعماء لها، سرّاً وعلانية، وصحف هذه المرحلة الموالية للاحتلال، ولاسيما (البشير) و (لسان الحال)، بالرغم من كل ذلك، كما يذكر د. منذر جابر، في أطروحته، غير المنشورة أو المترجمة (صفحة 136)، فإن هذه (العصابات)، تجاوزت المناوشات المتفرقة، إلى المجابهات الصدامية، في النصف الأول من العام 1920، وعلى مساحة جبل عامل كله تقريباً، في سبع مواجهات، عددتها جريدة البشير في 29 نيسان/أبريل 1920، يعترف الفرنسيون بأن خسائر إحدى سراياهم لم تتجاوز الخمسين بين قتيل وجريح.. لكن أحمد رضا في مجلة العرفان، يورد أنهم خسرو سبعين قتيلاً وسبعة وثمانين أسيراً وسبعة عشر رشاشاً، وقد اعترفوا بترك ثلاثة رشاشات ألقوها في نهر الليطاني.. ثم لم يعد للدولة من وجود بعد ذلك.
حاول كامل بك الأسعد، إنشاء الحرس الوطني، بقيادة فرنسية، ضد العصابات.. لكن الفكرة دفنت لعدم التجاوب معها، ومعارضة المرجعيات الدينية لها، ولاسيما المرجع السيد عبد الحسين شرف الدين، خطيب مؤتمر وادي الحجير، كما سنرى.
وفي تسلسل الأحداث، وضمن وحدة بلدان الشام، وترابط مجاهديها وأحداثها (صادق حمزة لجأ للأردن، وأدهم خنجر للقرية عند سلطان باشا الأطرش..(: واجه أمير الجولان حينه، الأمير أحمد الفاعور، كامل الأسعد، بإنذار حمله إليه الثائران: أحمد مريود، وسعيد العاصي، بوجوب تحديد الموقف: هل أنتم معنا، أو ضدنا لنتصرّف، كثورة وثوار..؟ فاستمهل الأسعد للتشاور مع المراجع والفعاليات.. فكان مؤتمر وادي الحجير في 24 نيسان/أبريل 1920. والذي كانت مناقشاته الحادة، تتم تحت خيمة ضخمة ضربت للمناسبة، وقد لقي وصول قادة العصابات ترحيباً وهتافات، لم ترق لبعض الزعامات، لأنها كانت أوسع من ترحيب أنصارهم بهم. وقد حيا خطيب المؤتمر الرئيسي، الفقيه المرجع عبد الحسين شرف الدين جهاد الثوار عموماً، ودور صادق حمزة، وهو يعود بالنسب لآل الأسعد، خصوصاً.. لكن كامل بك طلب من المرجع بصوت منخفض قائلاً: «لا تبالغ يامولانا.. من سرقة الدحروب، لشن الحروب»، غامزاً من قناة صادق حمزة ورفاقه.
على أن فقيهاً أقل شهرة ومرجعية، وإن كان من آل الفقيه (يوسف الفقيه)، كما أفاد ابنه، قد طلب من المؤتمر (حل العصابات)، وحجته أن جبل عامل لن يتغلب على فرنسا، ورفض الانضمام لدولة لبنان الكبير، تحت الاحتلال أو الانتداب، أو الحماية الفرنسية، مع النظر في إمكان منح جبل عامل نوعاً من الحكم الذاتي، في إطار الدولة العربية السورية.
وقد حمل هذه القرارات وفد علمائي، إلى فيصل في الشام، تكلم باسمه، السيد عبد الحسين شرف الدين، في خطبة تراثية، ربطت حكومة فيصل في الشام العام 1920. بحكومة الرسول الأكرم (ص) جده الأعلى، في المدينة المنورة بدءاً من العام 622م بقداسة دينية متصلة، ومتجددة.
ووفاءً لهذا البحث التاريخي، وحقائق مجرياته، وتذكيراً بما ينفعنا في حاضر صراعنا المتصل، منذ ذلك الحين، بل وقبله، لأن الجنرال الإنكليزي (اللنبي) عندما احتل القدس العام 1917، ترجّل عن حصانه، وقال: «الآن انتهت الحروب الصليبية» كما أن الجنرال (غورو) الفرنسي، عندما دخل الشام، في 25 تشرين الأول/أكتوبر 1920، وضع قدمه على ضريح صلاح الدين الأيوبي، قائلاً: «ها نحن عدنا يا صلاح الدين، وكنت تزعم أننا لن نعود..»، نذكر أن الجناح المقاوم في حكومة فيصل، ولاسيما قيادة السرية الثالثة في الجيش العربي، المرابطة في حلب، قد أعلنت بوضوح، في 13 نيسان /أبريل العام 1919: «بما أننا لا نستطيع إعلان الحرب رسمياً على الفرنسيين، لتفوقهم في المدفعية والمدرعات والطائرات وغزارة النيران المختلفة، يجب العمل على نشر (العصابات) في كل مكان، وأن يتكلف ضباطنا بالقيادة والتدريب، وعندما يستشهد أي مجاهد تقوم الحكومة برعاية عائلته...».
وأخيراً، في ما يتعلق بنتائج مؤتمر وادي الحجير، فقد اختلفت وجهات النظر تجاهها، إذ من الطبيعي أن سلطات الاحتلال الفرنسية، ومن والاها، والصحف الناطقة باسمها، خفية أو جهاراً (جريدتا البشير، ولسان الحال، ومجلة المشرق...) قد هاجمت مؤتمر وادي الحجير وقراراته، وزعمت بعد أحداث عين إبل، التي جرت بعد (10) عشرة أيام من انعقاد المؤتمر، أي في 5 أيار/مايو 1920، أن المؤتمرين الشيعة قرروا في وادي الحجير: «إنهاء الوجود المسيحي في المنطقة ليصبحوا أسيادها دون منازع» كما أن كليمنتين خياط في مجلة المشرق تؤكد ما ذهبت إليه جريدة البشير (6 أيار/مايو 1920)، وتزيد أن «الذي أخّر قيام الشيعة بإنهاء الوجود المسيحي، المقرر في وادي الحجير (حسب زعمها) هو شجاعة السكان المسيحيين في الدفاع عن أرضهم..»، حتى أن أمين الريحاني في كتابه ملوك العرب، يذهب هذا المذهب، ويزعم أن المرجع الشيعي أفتى بذلك «وهو يداعب عمامته..».
والثابت أن مؤتمر وادي الحجير، قرر العكس تماماً واستحلف قادة العصابات ومنهم صادق حمزة ألا يتعرضوا للمسيحيين إلا بالخير، وقد تعهدوا وأقسموا على ذلك.. لكن، من يتعاون مع المحتلين، أكان مسلماً أم مسيحياً، سينال جزاءه، وقد ثبت ذلك عندما هاجم صادق حمزة قرية جويا الشيعية، وقتل أبناء علي زيدان لتعاونهم مع الفرنسيين، أو عندما صادر الأموال المجبية، من عبد الغني الدح ومرافقيه، فأعاد الأموال إلى أصحابها، واحتفظ بحصانين، وهو أمر له ما يبرره في قانون الحرب بالنسبة إلى لاحتفاظ بالحصانين... وهذه وقائع تثبت أنه كان ثائراً وطنياً غير طائفي، وليس قاطع طريق أو قائد عصابة، يسرق الدحروب (التين المجفف) كما حاول كامل بك الأسعد أن يصفه.
على أن قول الصدق والفصل، في بعض نتائج مؤتمر وادي الحجير، جاء في مذكرات الفقيد الأستاذ خليل موسى صادر، ابن عين إبل، وابن لبنان خاصة، والوطن العربي عامة، حيث أفاد في مذكراته، التي لم يمهله القدر لاتمامها أن مقررات وادي الحجير، تستجيب للأماني القومية، في الانضمام إلى الوحدة مع سورية التي كانت تشهد نشوء حكم عربي فتي (ص 19 وما بعدها) وأنها قررت الحفاظ على حياة المسيحيين وأملاكهم، لأنهم جزء من شعبنا: «لكن المؤتمر حمل ثغرتين في تشكله وأدائه: غاب عنه أي تمثيل مسيحي... ولم تنبثق عنه لجان متابعة.. لتكون إطفائياً يتصدى للحرائق الصغيرة، قبل أن تتحول إلى حريق كبير... كان المؤتمر يدعو إلى التعقل والتهدئة، والمنتدب الفرنسي يدفع باتجاه الفتن وتوزيع السلاح.. فهوجمت البلدة ردّاً على استفزازات رعناء قام بها نفر من عين إبل، ونهبت.. وهجرت.. وبعد وقوع المجزرة الفتنة، تحركت جحافل فرنسية، تجتاح وتنهب وتخرب.. ليكتمل زحفها إلى الشام لتسقط الحكم العربي الناشئ..»
يبقى أن الذي دعا إلى المؤتمر هو كامل الأسعد، زعيم جبل عامل، وهو من يتحمل وزر تجاهل دعوة شخصيات مسيحية للمؤتمر، ويتحمل مع غيره من فعاليات المؤتمرين، عدم تشكيل لجان متابعة تحول المؤتمر الى هيكلية تنفيذية نظراً لعدم وجود الاحزاب وغياب السلطة السلطة الوطنية.



المراجع :
مذكرات الرفيق خليل صادر رمز العطاء والالتزام 
غنوة ملحم :وادي الحجير :ملتقى الاستجمام وقلعة التحدي 
سعد علوه، جريدة السفير، 6/7/2007:قصص حرب تموز
حازم الأمين، جريدة الحياة،11 تموز 2009
د.منذر محمود جابر أطروحة دكتوراه بالفرنسية، غير منشورة لعام 1978 تكرم بإعارتها لي بناء على طلبي مشكوراً
Previous Post
Next Post

About Author

0 comments: