هآرتس – افتتاحية - 30/8/2013
ساعر في دور يشاي
بقلم: أسرة التحرير
اعلان وزير الداخلية، جدعون ساعر، عن خطة ابعاد مهاجرين من ارتيريا والسودان بعد الاعياد يتضمن تعابير مثل: "عودة طوعية"، "انتشار نداء" و"مساعدة في عملية الخروج". ومن لغة البيان يمكن للمرء أن يظن مخطئا بان دولة اسرائيل تساعد اولئك المهاجرين في طريقهم الى مكان منشود. في هذه الحالة اوغندا، دولة شروط الاتفاق معها مغلقة بالغموض ومصير من سينقل اليها ليس واضحا هو ايضا. وفي ذات البيان، بعد الكلمات المؤدبة والمغسولة، يضيف ساعر بان الدولة ستتخذ خطوات ضد من يرفض المغادرة كسحب التراخيص التي كانت له ومنع العمل – الامر الذي يؤكد السؤال عن أي اجراء "مغادرة طوعية" يتحدث وزير الداخلية حين يكون البديل الذي يعرضه على من يرفض هو التهديد بالحبس والمطاردة من السلطات.
ليست خطة ساعر الا محاولة لابعاد جماعي للمهاجرين الافارقة، الذين الكثيرون منهم لاجئون وطالبو لجوء محميون من القانون الدولي تتنكر لهم دولة اسرائيل منذ أن دقوا ابوابها. لقد منحت اسرائيل 55 الف مهاجر افريقي يعيشون فيها حماية جماعية كي لا تنتهك مبدأ "عدم الاعادة" والذي بموجبه لا يجب ابعاد انسان الى مكان تكون فيه حياته أو حريته في خطر، ولكنها تمتنع عن الفحص التفصيلي لمكانتهم، فحص واجب بفضل كونها موقعة على ميثاق اللاجئين وخاضعة للقانون الدولي. كل هذا، في ظل منعها عن المهاجرين حقوقا اجتماعية أساسية، كامكانية العمل وحق الوصول الى الخدمات الصحية، وتطبيق "قانون التسلل" عليهم، والذي يسمح باتخاذ خطوات الحبس بدون محاكمة لمدة ثلاث سنوات على الاقل، والاعتقال غير المحدود بالزمن على الاشتباه فقط بجرائم جنائية.
ان بيان ساعر معناه ازالة آخر شرائح الدفاع المتبقية لطالب اللجوء. ورغم أن الجدار الذي بني في الجنوب ادى الى الوقف شبه التام لتيار المهاجرين ورغم أنه بالتوازي مع الابعاد يتم استجلاب مئات العمال الاجانب، يصر وزير الداخلية على خطوات يوجد فيها نوع من الاخفاق الاخلاقي والخيانة للقيم الانسانية الاساسية الكونية للتكافل الانساني وانقاذ الحياة.
نظرة عليا - مقال - 30/8/2013
تدخل عسكري أمريكي في سوريا
في ضوء غاية استراتيجية واسعة وليس فقط كعملية عقاب
بقلم: عاموس يدلين وافنير غولوب
حتى نشر الانباء عن أن جيش الاسد نفذ هجوما واسعا بسلاح كيميائي في ضاحية شرقي دمشق، لم تفكر واشنطن بجدية في التدخل العسكري في سوريا. في ضوء استنتاجات محافل الاستخبارات الغربية بان الاسد مسؤول عن استخدام السلاح الكيميائي – كما ينعكس من تصريحات وزير الخارجية الامريكي جون كيري – بحثت الادارة الامريكية في امكانيات الرد العسكري المناسب. الرد العسكري لا يقف بحد ذاته ويستوجب تعريف ما هي الغاية الاستراتيجية للولايات المتحدة عند استخدامها القوة العسكرية في سوريا.
الهدف الامريكي المعلن هو معاقبة الرئيس الاسد على استخدام السلاح الكيميائي ورده من استخدام مكثف آخر لهذه الوسيلة. هدف امريكي غير معلن ولكنه هام بقدر لا يقل يجب ان يكون المس بالاحساس بالامن لدى الرئيس السوري وتغيير فهمه عن قدرته على البقاء، واحلال وقف للمذبحة بما فيها "التقليدية"، لابناء بلاده وانهاء الحرب الاهلية فيها.
من أجل تحقيق هذين الهدفين على الرئيس الامريكي ان يعيد بناء قوة الردع الامريكية. الرئيس الامريكي الذي أعلن على الملأ عن "خط احمر" اجتيازه سيجر رد فعل، امتنع عن العمل حتى الان. وعزز كبح الجماح الامريكي احساس الامن لدى الاسد وشجعه على توسيع حجم نشاطه ضد الثوار وضرباته الواسعة للابرياء. كما أن كبح الجماح الامريكي عزز التقدير في موسكو بان دعمها للاسد سيثبت للعالم ولائها لحلفائها ووقوفها عند مبادئها – خلافا للولايات المتحدة، التي تترك حلفائها لمصيرهم وتتردد في الوقوف عند مبادئها.
مصلحة امريكية هامة جدا هي اضعاف المحور الراديكالي – ايران، سوريا وحزب الله – وذلك لان الانجازات التي سيسجلها لصالحه ستكون بشرى سيئة للقيم التي تؤمن بها الولايات المتحدة ومصالحها. فالامتناع الامريكي عن القيام بعمل في سوريا شجع حزب الله على التدخل في ما يجري في سوريا الامر الذي نجح في تغيير الزخم في الحرب الاهلية هناك في صالح الاسد. وسجل المحور الراديكالي انجازا في مواجهة الضعف البارز في المعسكر الغربي المعتدل. وعزز التردد الغربي روسيا التي واصلت الدعم الوثيق لنظام الاسد، والمنظمات الجهادية، التي تعززت كلما امتنعت الولايات المتحدة عن العمل. المنظمات التي بقيت الاضعف هي بالذات المنظمات العلمانية المؤيدة للغرب، الهامة جدا لمستقبل سوريا وقدرتها على اقامة نظام ديمقراطي وليبرالي في اليوم التالي لسقوط الاسد. فمصلحة امريكية هي محاولة تغيير الزخم في صالح هذه المنظمات.
هذا وسيؤدي اضعاف محور طهران – دمشق – بيروت والمنظمات الجهادية الى تقليص الخوف من هز الاستقرار في الحدود السورية مع تركيا، الاردن واسرائيل – حليفات الولايات المتحدة في المنطقة. ومن شأن استمرار ميل عدم الاستقرار الحالي ان يؤدي الى توسيع دائرة العنف الى مزيد من الدول في المنطقة.
ويوجد احيانا توتر بين الالتزام الاخلاقي للدولة ومصالحها، ولكن في الحالة السورية لا يوجد للولايات المتحدة مثل هذا التوتر. فمن الناحية الاخلاقية واضح للجميع بانه لا يمكن المرور مرور الكرام عن حقيقة ان جيش الاسد نفذ هجوما كيميائيا واسع النطاق. وليست هذه حالة منعزلة بل استمرار لسياسة لا تتردد في ذبح المواطنين من خلال استخدام مكثف لسلاح غير دقيق ومدمر وباستخدام السلاح الكيميائي. وقد جبت هذه السياسة حياة اكثر من 110 الف نسمة حتى الان وحولت الملايين من المواطنين السوريين الى لاجئين. وازدادت جسارة الاسد كلما انكشف التردد الامريكي في الرد على اعمال الذبح التي ارتكبها. وازدادت جسارة منظمات الثوار ايضا كلما وسع الاسد اعمال الذبح.
في هذا الوقت لا خيار عسكري يمكنه أن يوقف فورا المذبحة الجارية في سوريا، حمل الاسد على الرحيل وضمان نظام معتدل وديمقراطي في الدولة. وعليه فان كل الخيارات القائمة، وعلى رأسها استمرار كبح الجماح الامريكي هي خيارات غير سليمة بل وحتى سيئة. وفي ضوء الفهم بان انعدام الفعل هي الاستراتيجية الاسوأ – غير أخلاقية وتمس بالمصالح الامريكية، ثمة حاجة الى فحص امكانية "الاستراتيجية السيئة الافضل".
ان التدخل في الحرب الاهلية في سوريا يتعارض والتطلع الامريكي الى وضع حد لحروب العقد الاخير في الشرق الاوسط، وهو يمس بإرث الرئيس اوباما الذي يتبنى "اعادة جنودنا الى الديار ويطرح التخوف من حرب اخرى في دولة اسلامية، حرب تشبه تلك الحروب التي انهاها اوباما في العراق وفي افغانستان.
التخوف الاساس هو ان عملا أمريكيا سيجر "آثار غير متوقعة" توسع نطاق الحملة العسكرية في سوريا ومدتها. فمثلا، حملة عسكرية حيال الاسد كفيلة بان تعزز المنظمات الجهادية. التدخل العسكري من شأنه ان يجلب واشنطن الى مواجهة مباشرة مع موسكو وكذا من شأنه ان يجر رد فعل من السيد الايراني للاسد ويفتح جبهة اخرى حيال ايران وحزب الله، الذي بات منذ الان مشاركا في القتال في سوريا.
نقدر ان ليس لكل هؤلاء اللاعبين مصلحة في تصعيد الازمة بل في احتوائها والحفاظ على الزخم الذي حصل عليه الاسد بعد الانتصار في القصير. ومع ذلك، لما كان الرأي العام الامريكي يعارض بشدة هجوما بريا واسع النطاق، فاننا على قناعة بان امكانية حملة عسكرية واسعة، بما فيها اجتياح قوات برية ليس مطروحا على طاولة المباحثات في البيت الابيض.
ومع ذلك فان على الطاولة ست استراتيجيات، ليست هجوما شاملا (على نمط العراق 2003). رئيس الاركان الامريكي الجنرال مارتين دمبسي تناول هذه البدائل في رساله الى الكونغرس في 19 آب 2013 قبل يومين من الهجوم الكيميائي في دمشق. وعليه، فمعقول ان تكون هذه البدائل هي الموجودة على الطاولة – وتدرس قدرتها على تحقيق الغاية الاستراتيجية حيال المخاطر. وهاكم تحليل للنتائج المتوقعة لكل بديل والمخاطر التي فيها.
1. خيار ما كان وما سيكون: تعزيز التدريب والمساعدة بالسلاح للثوار
تدريب قوات الثوار خارج سوريا، المساعدة في اقامة سلسلة قيادية ناجعة، وارسال سلاح هام، في ظل اخذ المخاطرة في أن يصل السلاح المتطور الى منظمات الارهاب في سوريا. رغم ان الرئيس الامريكي سبق أن اعلن بان الولايات المتحدة ستسلح الثوار فان هذه السياسة لم تطبق بكامل حجمها بعد، ولكن ايضا القرار بالتطبيق الكامل للتصريح الرئاسي لن يشكل في هذه المرحلة علامة مقنعة على تغيير السياسة الامريكية وتصميمها على تغيير ميزان القوى في سوريا. ورغم أن هذه الاستراتيجية كان بوسعها ان تتناسب والظروف التي سادت حتى ما قبل بضعة اشهر، فانها لا تشكل جوابا مناسبا في هذه النقطة الزمنية.
2. هجوم "عقابي" موضعي
الهجوم سيوجه بحجم محدود وموضعي وفي وقت قصير ضد الوحدات التي شاركت في الهجوم الكيميائي الاخير او الهجوم على أهداف عسكرية او ذخائر للحكم السوري. ويشكل هذا الخيار تغييرا في السياسة الامريكية، فمع انه سيعزز مصداقية الولايات المتحدة الا ان فرصه في أن يعيد قوة الردع الامريكية ليست عالية. فالحديث يدور عن فعل عقابي محلي لا يغير الواقع في سوريا بشكل ذي مغزى. بوسع هذا الخيار ان يمنع استخداما واسعا للسلاح الكيميائي، مثلما حصل الاسبوع الماضي، ولكن هناك شك كبير في أن يؤثر على اعتبارات الاسد في مواصلة المذبحة بحق شعبه.
3. الاعلان عن منطقة حظر جوي "No Fly Zone" مع امكانية ادخال عناصر من اللاحركة "No Move" ضد المدفعية، الدبابات والراجمات السورية
هذا الخيار يبقي الولايات المتحدة في هامش الصراع الداخلي السوري وينقل القرار الى ساحة الاسد – هل سيفحص التصميم الامريكي. فالمس بحرية العمل الجوي للاسد كفيل بان يشكل عقبة هامة في خطته الحربية لانه يتمتع في هذه الساحة بتفوق مطلق حتى الان. فالحظر على اطلاق نار المدفعية، الدبابات والراجمات في اماكن معينة كفيل بان يضرب مستوى آخر للاسد فيه تفوق هام (قوة النار) ويقلص الضرر بالسكان المدنيين السوريين. مناطق حظر الطيران او حظر الحركة تحتاج الى تعزيز على مدى الزمن – الامر الذي يتطلب استثمارا كبيرا نسبيا بالمصادر. للولايات المتحدة الجيش الاكبر والاكثر تقدما في العالم. وحتى لو عملت لوحدها فان بوسعها ان تنفذ هذه المهامة بواسطة قواتها في المنطقة فقط. واذا تمكنت من اشراك حلفائها، فان النقيصة الاساس في هذا الخيار ستتقلص جدا.
4. الاعلان عن مناطق مجردة من السلاح قرب الحدود مع تركيا والاردن وأروقة انسانية
هدف هذا الخيار هو خلق مأوى للسكان المدنيين بهدف تقليص المذبحة في سوريا وامكانية خلق أروقة لتوريد المساعدات الانسانية للعناية بالسكان الذين تضرروا منذ الان. ومثلما في الخيار السابق، ففي هذا الخيار ايضا مطلوب تعزيز وحماية للمناطق التي موضع البحث كما انه يتطلب ادخال قوات برية. اذا ما تم الاخذ بهذا الخيار ينبغي التأكد من أن القوات التي تنفذ الحماية للمناطق المجردة من السلاح والاروقة الانسانية لن تكون قوات امريكية. فجنود اتراك يحرسون الاروقة بجوار الحدود التركية وجنود اردنيون يحمون المناطق بجوار الحدود الاردنية. كما يمكن تنسيق التعاون مع منظمات معتدلة من الثوار السوريين لحماية المناطق داخل سوريا.
5. هجوم جوي مستمر ضد أهداف عملياتية، تسمح للاسد بادارة القتال ضد الثوار، كالقيادات وقواعد السلام
في سيناريو الهجوم واسع النطاق سيكون ممكنا شن هجوم على قوات برية، جوية وبحرية وعلى السلاح المتطور. هذا خيار حديث وذو مغزى يؤثر على موازين القوى بين الاسد والثوار وينقل رسالة تصميم امريكي من شأنه ان تغير احساس الامن في اوساط رجال النظام السوري. هذا الخيار يدخل الولايات المتحدة في تدخل مباشر في الحرب الاهلية في سوريا ويضع الاسد في وضع جديد وصعب. في هذا الخيار خطر اجتذاب الولايات المتحدة الى داخل الحرب الاهلية عال نسبيا.
6. السيطرة والتدمير للسلاح الكيميائي في سوريا
هذا الخيار هو الاكثر نجاعة حيال التهديد باستخدام السلاح الكيميائي من جانب الاسد او من جانب الثوار. ولكن السيطرة والتدمير للمخزون الكيماوي الكبير لدى سوريا هي حملة تتطلب استخدام قوات خاصة وادخالها الى سوريا لفترة طويلة – حتى التدمير لكل المادة الكيميائية. وفي هذا السيناريو ينبغي فحص كم يمكن تقليص استخدام السلاح الكيميائي من خلال تعزيز قوة الردع الامريكية بواسطة أحد الخيارات الاخرى وايضاح التصميم الامريكي للعمل في حالة استخدام آخر للسلاح الكيميائي.
خلاصة وتوصيات سياسية
تحليل الخيارات ذات الصلة لدى الرئيس اوباما يشير الى الحاجة الى استراتيجية تدمج الخيارات الثالث، الرابع والخامس لتدخل امريكي مباشر وتدريجي. وستغير هذه الاستراتيجية "قواعد اللعب" في سوريا، تتجاوز العقاب والردع للاسد عن استخدام آخر للسلاح الكيميائي. ان استراتيجية التدخل المتداخل والتدريجي ستتضمن هجوما على اهداف استراتيجية منتقاة كفعل عقابي على الهجوم الكيميائي في ضواحي دمشق، والاعلان عن منطقة حظر جوي "No Fly Zone". ويمكن للولايات المتحدة في الخطوة الثانية ايضا ان تعلن عن مناطق مجردة من السلاح وأروقة انسانية وتهاجم ذخائر الحكم اذا ما صعد الاسد ردود أفعاله.
لقد صمم الرئيس اوباما سياسة الامن القومي، التي لا تبادر بالتدخل الا عندما تكون المصلحة القومية العليا في خطر وفي اطار شرعية واسعة قدر الامكان. ويبدو أن التقدير في واشنطن هو أن آخر أعمال الاسد تهدد المصلحة الامريكية العليا. على الادارة ان تحث خطوة عسكرية مشتركة في أوسع اطار ممكن – في مجلس الامن، وفي ظل الفيتو الروسي – في اطار التعاون مع حلفائها واشراكها في خطواتها في المنطقة: تركيا (التي أعلنت عن تأييدها للخطوة الامريكية)، السعودية، قطر، الاردن واسرائيل مع امكانية اشراك مصر ايضا، من أجل تحسين العلاقات بين الدولتين. وينبغي للتخطيط الامريكي أن يتضمن ايضا ردا سياسيا على الاعتراض الروسي واستعدادا لردع ايران وحزب الله من توسيع ميدان المعركة. وكما زعم، فان خطوة عسكرية امريكية كهذه لن تحل النزاع السوري، ولكنها البديل الاقل سوء من بين الخيارات السيئة والى جانب مبادرة لتسوية سياسية، يمكنها باحتمالية عالية أن تقدم الى الامام الغاية الاستراتيجية لتغيير نظام الاسد، الحاق هزيمة بالمحور الراديكالي، ترميم الردع والمصداقية الامريكية حيال ايران وتعزيز الاستقرار وتحالفات الولايات المتحدة في الشرق الاوسط.
معاريف - مقال - 30/8/2013
"لن نوافق حتى ولا على مستوطنة واحدة"
بقلم: آساف جبور
في عمر 76 سنة توجد مسائل عديدة على طاولة أبو علاء – هو احمد قريع. هو عضو المجلس التشريعي لفتح، يترأس دائرة القدس عن منظمة التحرير ويعالج جملة مواضيع تتعلق بالمفاوضات. في مكتبه الذي في أبوديس ينكب أبو علاء، رئيس الوزراء الفلسطيني الأسبق، على وثائق تعنى بشؤون القدس. في يد يحمل كومة أوراق مكثفة وفي يد اخرى نظارتيه. وهو يرفع الرأس نحونا، يقف ويستقبلنا.
أبو علاء، من مهندسي اتفاق اوسلو، على علم بحقيقة أن الاتفاق بعيد عن التحقق، ولكنه يعرب عن الأمل بالنسبة للمحادثات الحالية. "أنا حزين جدا أنه بعد عشرين سنة منذ التوقيع على اتفاق اوسلو، الاتفاق الذي كان يفترض أن ينفذ في غضون خمس سنوات – اختفى"، يقول أبو علاء. "التواقيع التي أسندتها الأسرة الدولية، الدول الاوروبية والبيت الابيض، بدأت تبهت، في الوقت الذي على الأرض يأخذ الحل في الابتعاد".
ومن المذنب في ذلك؟
"أعتقد بأن السبب هو أن المجتمع في اسرائيل لا يوافق بينه وبين نفسه عن حل اعطاء دولة مستقلة للفلسطينيين، عاصمتها القدس. في هذه الاثناء فانها تأخذ المزيد فالمزيد من الاراضي الفلسطينية وتنتهك حقوق اخرى للفلسطينيين حتى لا يبقى ما تعطيه للفلسطينيين كدولة. هذا خطأ كبير. الفلسطينيون لن يتخلوا عن حقوقهم الكاملة – لا اليوم ولا بعد جيل. ورغم أن اسرائيل توسع المستوطنات، فان الزمن لا يعمل في صالحها. أدعو اسرائيل الى السعي بسرعة الى السلام. اذا حلت اسرائيل مشكلتها مع الفلسطينيين، اللبنانيين والسوريين، فلن يكون أي سبب لأن تبقى عدو المنطقة. أكثر من 52 دولة اسلامية أعلنت بأنها ستعترف باسرائيل اذا ما حلت المشكلة الفلسطينية".
الادعاءات بأن بنيامين نتنياهو غير معني باتفاق سلام، ولا يعتزم حل النزاع الاسرائيلي الفلسطيني لا تؤثر على أبو علاء. "نحن كفلسطينيين لا نتفاوض مع نتنياهو، اولمرت، شارون، رابين أو بيرس كأناس. نحن نتحدث معهم كممثلين للموقف الاسرائيلي وكأصحاب القرار"، يقول كمن ترأس الفريق الفلسطيني المفاوض حيال اولمرت وباراك. "نحن لا نميز بين اولمرت، نتنياهو أو باراك، كيف يحتمل أن ليس لاسرائيل موقف مرتب وموحد في موضوع هام واستراتيجي كهذا، يؤثر على علاقات اسرائيل تجاه المنطقة بأسرها؟.
"موضوع المستوطنات مثلا: كل العالم يعتقد أنها غير قانونية، الولايات المتحدة ترى فيها غير قانونية، وكذا الاتحاد الاوروبي والدول العربية. فلماذا اذا تواصل اسرائيل البناء هناك؟ في سيناء اسرائيل دمرت المستوطنات. شارون في قطاع غزة دمر المستوطنات. في الجولان – أعرف من القيادة الاسرائيلية أنه في المحادثات مع السوريين تحدثوا عن ترك المستوطنات، وأنا أتحدث عن أكثر من رئيس وزراء اسرائيلي واحد. كلهم وافقوا على أن تعود المستوطنات في الجولان الى سوريا، وبالتالي فاني اسأل المجتمع في اسرائيل والحكم في القدس: اذا كانت اسرائيل دمرت المستوطنات في سيناء، في غزة، وأوشكت على تدمير المستوطنات في هضبة الجولان، فلماذا لا تخلي المستوطنات في الضفة، اذا كانت تريد السلام؟".
برأيك، اسرائيل تستخدم المفاوضات لكي توسع المستوطنات؟
"اسرائيل تواصل كل الوقت ببناء المستوطنات، مع المفاوضات وبدونها. نحن فهمنا هذا، ولهذا استأنفنا المفاوضات انطلاقا من موقف واضح بأن من ناحيتنا نحن لا نقبل التواجد حتى ولا لمستوطنة واحدة. اذا كانوا يريدون السلام – اذا بدون مستوطنات. واضح لنا بأن السياسة الاستراتيجية للحكومة الحالية في اسرائيل هي توسيع المستوطنات واستمرار البناء هناك. هذا ما يحصل عمليا كل يوم. العالم قال لاسرائيل أن توقف البناء. اوروبا اتخذت أفعالا كي تضغط على اسرائيل في موضوع البضائع من المستوطنات. بالتوازي مع الافعال، أوضحت اوروبا بأن من ناحيتها هذا خط احمر – هذا خط الحدود بين اسرائيل وفلسطين. ورغم كل هذا، لم توقف اسرائيل البناء في المستوطنات وردت على هذه الدعوات بالاعلان بأنها تعتزم بناء أكثر من ألف وحدة اخرى في المستوطنات".
اذا قد يكون الفلسطينيون اخطأوا في أنهم دخلوا الى المفاوضات منذ البداية؟
"المفاوضون الفلسطينيون وصلوا الى طاولة المباحثات بموقف واضح: في نهاية المحادثات سنحصل على دولة فلسطينية في حدود 1967 عاصمتها القدس، وحل مسألة اللاجئين الفلسطينيين. هذا هو الموقف الفلسطيني. المستوطنات هي موضوع ليس مقبولا من ناحيتنا".
مشروع فك الارتباط المسحوب
من تولى بين اعوام 2003 – 2006 منصب رئيس الوزراء الفلسطيني يتذكر حديثا كان له مع نظيره الاسرائيلي، اريئيل شارون، في موضوع امكانية دولة واحدة للشعبين. "أذكر أني تحدثت مع اريئيل شارون عن امكانية أن نعيش نحن، الفلسطينيين، تحت حكم اسرائيلي وأن الرئيس، رئيس الوزراء ورئيس البرلمان، يكونا اسرائيليين. وقد ألغى فكرتي عندها بايماءة يد وقال إنه يعرف أنه بعد اربع سنين سيأتي الفلسطينيون ويطلبون باسم حقوق الانسان حقوقا انتخابية وغيرها من الحقوق. برأيي، شارون لم يتطلع الى دولة واحدة للشعبين، أراد ببساطة أن يتخلص من الضفة مثلما فعل في قطاع غزة. وقد بدأ ببناء الجدار وفكر بحلول مشابهة لانسحاب من قطاع غزة. هو لم يقل لي هذا صراحة، ولكن هذا ما فهمته من أقواله ومن أفعاله".
أنت ترى واقعا يعود فيه لاجئون فلسطينيون من لبنان ومن سوريا الى تل ابيب؟
"هذا موضوع يُبحث الآن وبُحث في الماضي. نحن نريد الوصول الى وضع يكون فيه خيار للاجيء الفلسطيني. أن نسأل كل واحد منهم: ماذا تريد – هل تريد البقاء في مكان اقامتك اليوم أم تعيش في مكان آخر؟ هل تريد العودة الى السلطة الفلسطينية؟ هل تريد العودة الى اسرائيل؟".
وماذا عن القدس؟
"القدس هي مشكلة المشاكل. لأسفنا، اسرائيل لم تصل الى قرار بالنسبة للقدس. لا حل في موضوع القدس بشكل عام. أنا لا أفهم ماذا يقصدون حين يتحدثون عن تقسيم القدس. عمليا، اليوم توجد القدس الشرقية والقدس الغربية. النماذج للحلول متنوعة، ولكن لا توجد أي امكانية ألا تكون القدس الشرقية عاصمة دولة فلسطين. أحد لا يمكنه أن يكون مرنا في هذا الموضوع. القدس الشرقية يجب أن تكون عاصمة الدولة الفلسطينية".
والحرم؟
"المسجد الاقصى سيكون في أيادٍ فلسطينية، ونحن سنتعاون مع باقي الأديان، المسجد الاقصى يوجد في القدس أم في العراق؟ واضح أنه في القدس"، أبو علاء يضحك.
حسب التقاليد اليهودية، كان يوجد الهيكل.
"يكفي هذه القصص التي تُروى لآلاف السنين. يجب التقدم وحل المشاكل الموجودة اليوم. محظور على اسرائيل ان تحاول أن تحتل بالقوة مكانا حسب القصص قبل ألفي سنة كان فيه مكان مقدس. يوجد خلاف يجب حله. اذا كنتم تريدون أن يُحل الموضوع بطريقة سلمية، نحن معنيون. اذا كنتم تريدون محاولة حل الخلاف بالقوة، أقول لكم انكم لن تنجحوا".
ماذا بالنسبة للدولة الثالثة – دولة حماس في قطاع غزة؟
"نحن نعتزم أن تكون غزة جزءً من الدولة الفلسطينية. تحدثنا في الماضي عن معابر أمنية، قنوات وجسور تربط الدولة الفلسطينية في الضفة وفي غزة. ومنذ اتفاق اوسلو تحدثنا عن طريق يربط الضفة بغزة، من جنوب قطاع غزة عبر البحر الميت الى أريحا".
وماذا عن الجسر بين حماس وفتح؟
"هذا موضوع فلسطيني. يوجد الكثير من زوايا النظر والآراء، ولكن هذا موضوعنا وفي نيتنا حله. الشعب الفلسطيني يريد سلاما شاملا حقيقيا. حماس قالت إنها توافق على دولة فلسطينية. المشكلة هي ليست في الموقف الفلسطيني، المشكلة هي في الموقف الاسرائيلي. في اسرائيل لا يريدون السماح بحقوق الشعب الفلسطيني رغم الموقف الدولي ورغم أن اسرائيل نفسها موقعة على اتفاقات في موضوع داتفاق اوسلو".
مشاكل اقليمية
التلفزيون في مكتب أبو علاء يبث صورا عن الاستعدادات لهجوم في سوريا وجثث الاطفال الذين اختنقوا بالسلاح الكيميائي.
هل تعتقد بأن وضع الفلسطينيين جيد مقارنة بالعرب في سوريا، في مصر أو في العراق، حيث يُقتل بين عشرات ومئات المواطنين تقريبا كل يوم؟
"واضح أن وضعهم في الدول العربية معقد الآن. في مصر كانت ثورة ثانية، ونحن نأمل أن يكون الطرفان هناك في الطريق الى استقرار الازمة. في سوريا الموضوع آخذ في التعقيد. نحن نأسف جدا لرؤية الصور التي تأتي من سوريا، من مصر ومن العراق. هذا يؤلمنا ونحن نشجب كل استخدام للسلاح الكيميائي، ولكن بنفس القدر نحن نأسف ايضا لرؤية القتلى في قلندية الاسبوع الماضي. اذا كنت تتوقع ان أشكر اسرائيل على الأمن الذي تمنحه لي، فيؤسفني أن أُخيب أملك. على ماذا أشكر، على الاحتلال وسرقة اراضينا؟ على الحواجز، على القتلى الفلسطينيين بنار قوات الجيش الاسرائيلي؟ أنا آسف، ولكني لا أشكر".
هل ¬تتفهم النية الامريكية للهجوم في سوريا؟
"أجريت حديثا مع بعض الجهات الامريكية العليا في الايام الاخيرة كي أستوضح المنطق من هجوم محتمل في سوريا. لم أتفهمهم. قالوا لي إن ادارة اوباما غير معنية بهزيمة النظام في دمشق بل فقط المس به. سألتهم ولم أتلق جوابا كافيا، كيف يمكنهم أن يتحكموا بهجوم نهايته ستمس فقط بشكل شديد بالحكم ولن تهزمه؟ توجد أهداف مكتوب عليها "اسقاط النظام" واخرى مكتوب عليها "مس بالنظام"؟ هذا غريب في نظري".
ماذا ستكون آثار الهجوم في سوريا؟
"كل الأقاويل عن هجوم في سوريا وعن البدائل السلطوية تؤدي الى عدم الاستقرار هناك. ينبغي الفهم بأن أهمية سوريا في المنطقة جد مركزية. يمكن أن نشبه سوريا بالحبل السري للشرق الاوسط. اذا تفجر، فان كل المنطقة ستتفجر. سوريا تؤثر بشكل كبير على لبنان، على الاردن وعلى العراق. تركيا ايضا تعرف بأن تحول سوريا الى وعاء ضغط اقليمي سيؤثر عليها بشكل مباشر".
هل هذه حرب دينية؟
"الكل يفهم بأن ما يحرك معظم المواجهات في المنطقة الآن هي المواجهة الدينية الداخلية بين المسلمين الشيعة والسنة. توجد مجموعة تريد أن تقيم "خلافة اسلامية"، حكم اسلامي، واستخدام الدين لتحقيق القوة والسلطة. معظم المسلمين، الذين هم اغلبية العالم اليوم، يفهمون بأن للدين مكانا محترما، والحكم يجب أن يُدار بطريقة سياسية مع إشراك عناصر الدين".
هل الأحداث في العالم العربي تدحر الموضوع الفلسطيني؟
"هذا واضح . نحن نتأثر بما يجري في سوريا وفي مصر. التطورات من حولنا اشكالية جدا، ولكنها تؤكد حقيقة أنه يجب حل المشاكل الاقليمية، والمشكلة الاقليمية المركزية هي علاقات الدول العربية واسرائيل، حيث يشكل النزاع الفلسطيني لب الخلاف. حل هذه المشكلة سيؤثر بشكل ايجابي على كل المنطقة.
"من جهة نحن نتأثر بالمنطقة، ولكن من جهة اخرى نؤثر عليها ايضا. اتفاق سلام بين الفلسطينيين واسرائيل سيؤدي الى روح ايجابية في المنطقة كلها وفتح ابواب جديدة من الامل. رغم المشاكل في العالم، الموضوع السوري، المصري، السعودي والاردني لن يغير المشكلة الفلسطينية. فهي ستكون دوما هناك".
يرتاح ابو علاء في كرسيه وخلفه صورة المسجد الاقصى، علم فلسطين وصورة عائلية. "يوجد لي خمسة ابناء"، يقول. "كل واحد منهم جلب لي ثلاثة احفاد – بالاجمال 15. ولكننا فقط في البداية. نحن نبني حياتنا بأنفسنا ونحرص على مستقبل اطفالنا".
هل انت متفائل بالنسبة للنزاع الاسرائيلي – الفلسطيني؟
"دوما يجب الحفاظ على الامل، فهو الذي يعطينا القوة للحياة".
يديعوت - مقال - 30/8/2013
يُبحر على ايقاعه الخاص
بقلم: أورلي أزولاي
كان اولاد صغار محمرو الأعين مُلقين على البلاط في أروقة المستشفى بالقرب من دمشق، وكان نفسهم قد أخذ يضعف. وبدا الاطفال الصغار كأنما صُنعوا من الشمع. فقد كانت جلودهم بيضاء تكاد تكون شفافة وعيونهم لا تعبير فيها. إن غاز الأعصاب قد شل مجاري نفسهم واحتضروا احتضارا أخيرا قبل أن لُفوا بأثواب بيضاء. وصعب على الاطباء أنفسهم وعلى الممرضات الذين عالجوهم، وعلى عمال المستشفى الذين وثقوا بكاميرات الفيديو هذا العمل الفظيع، أن يتنفسوا بعد ذلك، فقد خرجوا وتقيأوا.
وتغلغل الرعب الذي ظهر من عيون الآباء والأمهات الذين جاءوا بأبنائهم المصابين، وبآبائهم الشيوخ وبالموتى الذين ماتوا في الشوارع، الى كل صالون في الولايات المتحدة في يوم الاربعاء الماضي في ساعات الصباح. فقد استيقظت امريكا على هذه الصور الفظيعة وبثتها محطات التلفاز من الساحل الى الساحل مرة بعد اخرى، وسارع اوباما الى أن جمع على أثرها مستشاري الامن القومي في غرفة بحث الوضع تحت الغرفة البيضوية. ومرت ساعات قليلة فقط منذ اللحظة التي اتضحت فيها أبعاد المذبحة الى أن طلب الرئيس أن يفهم ما الذي حدث بالضبط في تلك الليلة الفظيعة.
وضع ممثل وزارة الدفاع الذي شارك في اللقاء على الطاولة ما اعتُبر في الاستخبارات والمستويات المختصة "مسدسا مدخنا". وكان ذلك تسجيلا لمكالمة هاتفية بين مسؤول رفيع المستوى جدا في قصر الرئيس بشار الاسد وبين رئيس وحدة السلاح الكيميائي في الجيش السوري. وقد تم توثيق المسؤول الكبير في المكالمة التي اعترضتها الاستخبارات الامريكية وسُجلت بأقمار تجسس الولايات المتحدة في الشرق الاوسط، وهو يصرخ في السماعة على نحو وصفه محللو الاستخبارات الامريكية بأنه "اصوات ذعر". وقد سُمع هناك وهو يوبخ الضابط لأنه استعمل هذه الكمية من السلاح الكيميائي على معارضي النظام في حين أن كل ما طلبوه منه أن يُقدر الامور تقديرها بحيث يصيب ولا يُحدث مذبحة جماعية.
لم يكن يمكن أن يُفهم من المكالمة أأخذ القائد الميداني لنفسه حرية في أن يزيد في قوة هجوم الصواريخ الكيميائية من تلقاء نفسه، أم نفذ الأوامر التي صدرت إليه. وكان يصعب ايضا أن نستنتج أخرج اطلاق الصواريخ عن السيطرة أم عظمّت الحالة الجوية الضرر. كان التقدير الامريكي أن شيئا ما قد تشوش تشوشا كبيرا لكن شيئا واحدا كان واضحا تماما وهو أن الأمر صدر عن رجال الاسد. وقد كشفت المكالمات المسجلة عن أن الادارة السورية هي المسؤولة عن الهجوم غير التقليدي على مواطنين أبرياء لا قوات المعارضة كما حاول ناس الرئيس في دمشق أن يزعموا. ولم يُخفوا في الجماعة الاستخبارية الامريكية تأثرهم بأنه قد تم بعد سنتين ونصف تقريبا من الحرب الأهلية الحصول على برهان قاطع على أن الاسد اخطأ الخطيئة الكيميائية.
وقد أدركوا في المحيط القريب حول الرئيس أنه لن يستطيع أن يتجاهل هذا بعد الآن. وكانت الأوامر التي صدرت الى الجيش من الغرفة واضحة وهي الاستعداد فورا، وأن يكونوا مستعدين لهجوم في اللحظة التي يصدر فيها الأمر. لكن لا أحد تحدث هناك عن موعد توجيه الضربة، ولم يكن ذلك عرضاً. فالبيت الابيض تحت إمرة اوباما لا يعمل بطريقة الضربة الخاطفة السريعة. في مطلع الاسبوع – حتى بعد أن رأوا الصور واستمعوا للرسائل وحصلوا على شهادات من اطباء – طلب رؤساء الادارة الامريكية الى الجهات الاستخبارية أن تفحص عن الحقائق مرة اخرى. فقد أرادوا الحصول على عينات دم وتربة كي يصادقوا بصورة نهائية أنه قد كان هجوم كيميائي.
وفي واشنطن أخذوا في الحسبان أنهم في العالم سيلصقون باوباما مرة اخرى صفة "الليّن"، لكن ذلك كان من وجهة نظرهم مخاطرة محسوبة. ووجد في البيت الابيض ايضا من أشاروا على الرئيس أن يتمهل قليلا وأن ينتظر نتائج الفحوصات التي قام بها مراقبو الامم المتحدة لاتخاذ قرار نهائي. بل طلب رئيس هيئة الاركان العامة، الجنرال مارتن دامبسي، إبطاء عجلات الحرب حينما أرسل الى مجلس النواب رسالة مترددة قال فيها إن الولايات المتحدة ستخرج في هجوم بشرط أن يخدم الامر مصلحتها. وبدأ العد التنازلي بصورة رسمية قبل ثلاثة ايام فقط حينما أعلن وزير الدفاع تشاك هيغل في التلفاز: "نحن مستعدون للتنفيذ فورا".
قبضة حديدية في قفاز حرير
تُشبه الادارة الامريكية حاملة طائرات ثقيلة الوزن، لا في السياق السوري فقط. فهي تحتاج الى وقت طويل لتغيير اتجاهها ولادارة المقود. والرئيس الذي يوجهها وهو الكابتن اوباما معروف بين مستشاريه بأنه لا يترك حجرا لا يقلبه قبل أن يتخذ قرارا، وبأنه ذو ميل الى الاصغاء في صبر وتمهل لكل نصيحة، وللفحص عن كل تفصيلة استخبارية وكل معطى. وهو على عكس جورج بوش الابن ليس رئيسا يستل مسدسه سريعا وهو على عكسه ايضا لا يحب الدراما.
حينما كان معمر القذافي يذبح مواطني ليبيا، استفرغ اوباما وقتا طويلا الى أن وافق على عملية امريكية. وقد فعل ذلك في تلك المرة ايضا في آخر لحظة فقط حينما كان الموالون للحاكم في طريقهم الى بنغازي منطلقين سريعا لذبح معارضي النظام. وقد نسبوا في أنحاء العالم الى الرئيس آنذاك صفات التردد ووجد من نعتوه بأنه ساذج وحالم ومُهادن. وقد رأوه باعتباره زعيم العالم الحر الذي يجب أن يقود الركب في عالم متوحش، رأوه انسانا غير قوي بقدر كاف بل اتهمه معارضوه في مجلس النواب بأنه يدع الاوروبيين يقودون الهجوم في ليبيا متكفيا بـ "قيادة من الخلف"، وبذلك يُخزي امريكا العظيمة. وماذا عن اوباما؟ لقد صد الانتقاد وافتخر آخر الامر بأنه نجح في أن يوقف المذبحة في بنغازي وأفضى الى سقوط القذافي وكل ذلك دون أن يرسل جنديا امريكيا واحدا الى الارض الليبية.
ومرت سنتان ونصف، وينقض الرئيس مرة اخرى في هجوم في الشرق الاوسط بلا شهوة. فسفن الصواريخ والغواصات والقاذفات التي تُزين صورها الآن كل صحيفة وكل شاشة بعيدة عن أن تثير حماسته. ولا يبارك الامريكيون أنفسهم ايضا الحرب الجديدة. في استطلاعات للرأي تمت في الايام الاخيرة أجاب 60 في المائة منهم بأنهم يعارضون عملية عسكرية للولايات المتحدة في سوريا.
قبل عشر سنوات فقط بعد أحداث الحادي عشر من ايلول فورا، هتف مواطنو الولايات المتحدة للرئيس بوش حينما أعلن حربا على منظمة القاعدة في العراق. كانت امريكا المحاطة بمحيطين عن جانبيها تؤمن دائما بأنه لا مصلحة لها في التدخل تدخلا عميقا فيما يجري في العالم. لكن الصدمة والاهانة فعلا فعلهما في 2001. بل إن 80 في المائة من المستطلعة آراؤهم في الاستطلاعات لم يعرفوا أن يشيروا الى مكان العراق على الخريطة – وهذا معطى غير مفاجيء اذا أخذنا في الحسبان أن 75 في المائة من الامريكيين ليس لهم جواز سفر ألبتة – لكن تأييد الحرب وراء البحار كان واسعا. وماذا يعني أن يكون الرئيس قد خدع الجمهور ولم يكن لصدام حسين وناسه أية صلة بعملية التوائم.
إنطلق بوش سريعا الى العراق وعلى عكس أبيه لم يقف قبل بغداد بل استقر رأيه على احتلالها. وبعد شهرين من بدء العملية أعلن الرئيس السابق أن "المهمة تمت" ولم توجد أكذوبة أكبر من هذه. فقد استمرت المعركة سنين طويلة وجبت حياة آلاف الجنود الامريكيين وعشرات آلاف العراقيين وبلغت نهايتها فقط باستقرار رأي اوباما فقط على الانسحاب من العراق. وسيضع الرئيس في السنة القادمة ايضا حدا للحرب في افغانستان حينما سيخرج آخر المقاتلين من الدولة.
وبازاء الوضع المتدهور في سوريا أُثير في الجدل العام في الولايات المتحدة من جديد سؤال هل يُحافظ على امريكا قوية معزولة تهتم بمصالحها فقط، أم تصبح حاضنة العالم التي تتدخل في ازمات مشتعلة تحدث في طرف آخر من أطراف العالم. ولما كان اوباما نفسه هو الذي حدد لسوريا خطوطا حمراء تحجزها عن استعمال السلاح الكيميائي، فانه لم يكن له مفر في هذه المرة في الحقيقة. تطلع العالم إليه كي يرى هل يفي بكلمته، وأراد أن يراه يرفع قبضة القوة الامريكية في نجاعة وسرعة بضربة تُسقط الاسد محطما. وقد نُقشت الصور القاسية من سوريا باعتبارها حادثة تأسيسية لا يمكن تجاوزها في صمت.
إن اوباما على عكس التصور عنه لا ينفر من استعمال القوة. ففي سنوات الرئيس الامريكي الاربع والنصف في البيت الابيض أصبح أكبر مستعمل لسياسة الاغتيالات وراء خطوط العدو. وقد أرسل من الطائرات بلا طيارين اربعة أضعاف ما أرسله الرئيس بوش ليضرب أهدافا في افغانستان واليمن. وقتلت تلك الضربات مخربين لكنها قتلت ايضا مواطنين أبرياء فيهم نساء واولاد. ويجب أن يُضاف الى هذا السجل الحربي بالطبع اغتيال اسامة بن لادن وما زالت اليد مبسوطة. قال مسؤول رفيع المستوى في واشنطن في هذا الاسبوع إنه يأمل معجزة تُخفي الاسد دون أن يُطلق صاروخ بحري واحد على دمشق، لكن اوباما واقعي ولا يؤمن بالمعجزات. وحينما لا يوجد مفر آخر فانه يفضل القبضة الحديدية حتى لو كانت ملفوفة في قفاز حريري. "أنا لا أعارض كل الحروب"، بيّن قبل أن انتُخب للرئاسة، "أنا أعارض فقط حروبا غير عادلة".
الجنرال ونصف الحَمْل
إن الحربين اللتين ورثهما اوباما هدمتا اقتصاد القوة العظمى في الغرب، ومطتا قوتها العسكرية الى أقصى حدود القدرة وجعلتاها تخاصم نصف العالم. وهذا هو السبب الذي يدعو الرئيس الى أن يكون معنيا بأن تكون الضربة العسكرية لسوريا محدودة وبعيدة دون وجود على الارض. ويؤيد اعضاء من مجلس النواب ولا سيما جمهوريين ذوي خلفية أمنية مثل جون مكين هذا التوجه، لكن مسؤولين كبارا سابقين في الجيش الامريكي يُحذرون من أن ضربة قصيرة قد تُسبب ضررا على الخصوص. "إن هجوم عقاب لا يُغير بصورة واضحة توازن القوى ولا يفضي الى حسم اسوأ من ألا يُفعل شيء"، قال هذا الاسبوع كريستوفر هامر الذي كان في الماضي رئيس قسم التخطيط في الاسطول الامريكي. "بل إن هذا الهجوم قد يُقوي الاسد ويجعله يوحد القوى بزعم أنه يجب محاربة الأعداء الخارجيين".
وبيّن الجنرال أنتوني زيني الذي كان يعمل قائدا لمنطقة الوسط وعمل بعد ذلك مبعوثا الى الشرق الاوسط، قبل بضعة ايام أن المتوقع في سوريا هو غير المتوقع في الأساس. فالجيش يعرف كيف يخرج لتوجيه ضربة محدودة لكنه لا يعلم أبدا كيف يرجع عنها. "لا يمكن أن تكون في نصف حمْل فقط"، قال، "أقصد أنه حينما تبدأ اطلاق الصواريخ البحرية فان كل شيء يمكن أن يحدث. وأنت لا تعلم ماذا سيكون رد العدو ولا تستطيع أن تعتمد على وقوع هجوم واحد وانتهاء كل شيء. في 1998 نفذ الجيش الامريكي هجوما بالصواريخ البحرية في العراق وافغانستان ايضا ولم يُغير شيء الوضع. وكذلك الحال في سوريا فلا أحد يستطيع أن يضمن أن يفضي الهجوم من بعيد الى النتيجة المرجوة".
ويؤيد دبلوماسيون الخوف الذي يعبر عنه العسكريون. فقد حذّر ريان كريكر الذي كان في الماضي سفير الولايات المتحدة في دمشق هذا الاسبوع من اليوم الذي يلي الهجوم. "إن الصواريخ البحرية لن تغير طريقة تفكير الادارة السورية"، زعم. "قد يفضي ذلك الى نتيجة عكسية، أي الى وجود قدر أكبر من المظاهرات والعنف".
إن وزارة الدفاع الامريكية والجيش الامريكي على الخصوص لا يشاركان في التنبؤات السوداء، أو هذا ما يوحيان به على الأقل. صحيح أن الولايات المتحدة قصفت في كوسوفو مدة 78 يوما كي تضع حدا للتطهير العرقي، ويخطط الآن لهجوم خاطف لا يستمر أكثر من 72 ساعة، لكنهم في واشنطن يتوقعون أن تكون هذه المدة كافية. ويؤمنون هناك بأن الاسد سيقوم باجراء تراجعي بازاء قوة القوات العسكرية لامريكا وحليفاتها، وقد يتوصل معها الى صفقة تُمكّنه هو وأبناء عائلته من مغادرة سوريا في هدوء. ويتمنون في الادارة الامريكية صورة نصر كهذه للرئيس السوري يخرج من القصر ويركب مروحية تنقله بعيدا عن دمشق. وهم في الولايات المتحدة يقولون إنهم سيكتفون بـ "عقاب الاسد"، هذا من اجل المقتبسين لكنهم يأملون من وراء الستار أن يبلغ نظامه الى نهايته بذلك.
يوجد في هذا السيناريو المتفائل مشكلة رئيسة واحدة وهي أنه يُحتاج كي يتحقق الى تعاون روسيا. بيد أن موسكو كما يقول صاغة السياسة في واشنطن تتصرف كما في فترة الحرب الباردة وتُدير ظهرها للغرب. إن اللجوء السياسي الذي منحه رئيس روسيا فلادمير بوتين لمُسرّب المعلومات الامريكي، إدوارد سنودن، قد أفضى باوباما الى الغاء لقاء خُطط له معه ومنذ ذلك الحين أصبحت العلاقات بين الاثنين أشد توترا. وإن هجوم جيش الخطوط والنجوم على سوريا سيفضي الى تدهور آخر.
حينما ينقشع الغبار عن دمشق سيتبين أي سيناريو انتصر، وهذا صحيح الى الآن على الأقل. فاذا نجح اوباما في التملص من تورط امريكي آخر في الشرق الاوسط فسيستطيع أن يتجه الى بناء التراث والتركة التي يريد كل رئيس أن يُخلفها وراءه. ويتوقع ناخبوه التقليديون منه أن يغلق موقع العار في غونتنامو وأن يُقلل من استعمال الطائرات بلا طيارين وأن يُضائل سياسة الاغتيالات وراء خطوط العدو. ويعلم اوباما أن العملية في سوريا لن تخدم تراث من حصل في أول سنة من سنوات ولايته على جائزة نوبل للسلام مقدمة – ولم ينجح منذ ذلك الحين في أن ينفذ حتى خطوة سلام عالمي واحدة.
يديعوت - مقال - 30/8/2013
من قال ربيع عربي؟
بقلم: سمدار بيري
لولا الرد المزعزع وهو اقتلاع الأظفار في زنازين التحقيق، حينما أصبح أولاد صغار ضحايا تنكيل شبيحة النظام، فلربما تطورت الامور على نحو مختلف. كان رئيس سوريا بشار الاسد على يقين أصلا من أنه منيع في وجه رياح الثورة التي زعزعت العالم العربي. وقد آمن ايضا بأن الخوف سيصيب معارضيه بالشلل. وحينما دهش أن رأى الربيع العربي وصل إليه ايضا استقر رأيه على أن يعمل سريعا وعلى أن يردع كي يسمع المواطنون كيف تعمل السلطة ويحذروا. وقد أغضبه عمل قام به مجموعة من الاولاد أعمارهم بين العاشرة والثالثة عشرة من بلدة نائية جدا، بحيث مارس بالقوة جميع الأخطاء الممكنة. وأصبح العالم كله يرى النتائج منذ سنتين ونصف سنة.
حدث ذلك في شباط 2011. فقد خرجت مجموعة طلاب من مدرسة ابتدائية في البلدة الزراعية درعا على مبعدة 90 كم جنوبي غربي دمشق ليرشوا كتابات على جدران المباني الحكومية، بهدي من الربيع العربي الذي كان يهب في تلك الايام على تونس ومصر. وقد رش "اولاد درعا" الذين أصبحوا بعد ذلك رمز الانتفاضة في سوريا صبغا أسود ورددوا شعار "الشعب يريد اسقاط النظام" وصوروا رجال شرطة مسلحين بهراوات حديدية وخراطيم غاز. وكانت تلك سابقة لأنه لم يتجرأ أحد حتى ذلك الحين على أن يتكلم في سوريا عن الرئيس الاسد واجهزة حكمه.
وفي ذلك اليوم نفسه جاءت الى البلدة قوات أمن معززة واعتقلت الاولاد وسجنتهم في موقع تحقيق. ولقيت جميع المحاولات التي قام بها الآباء ورؤساء العائلات المحلية للاقناع بأن الحديث في الحاصل عن لعبة اولاد، لقيت جدارا أصم. وقد أبقوا الاولاد البؤساء اسبوعين في غرف التحقيق. وكان يمكن سماع صرخاتهم من بعيد. وحينما تم الافراج عنهم عرضوا أصابع مقطعة الأطراف وتحدثوا عن اعمال اغتصاب وتعذيب مخيفة في كل ساعات النهار والليل. وخرجت عائلات درعا الخمس الكبريات للاحتجاج أمام مبنى الشرطة وكانت تلك هي التظاهرة التي بدأت رقصة الأشباح في سوريا.
ودهشوا في قصر الرئاسة. "نصحنا الاسد أن يزور درعا مع زوجته أسماء وأن يُهديء النفوس"، قال لي في هذا الاسبوع مدين الذي كان يؤدي عملا رفيعا في مكتب الرئيس وهرب الى اوروبا بعد ذلك. "قلنا له: قولوا لعائلات الاولاد إنه وقع عدم فهم وعِد بالتحقيق في الواقعة ومعاقبة المسؤولين. وبعد أن كشفت قناة "الجزيرة" عن القضية اهتمت وسائل الاعلام العالمية بأن تُذكر الرئيس بأن عنده في البيت ثلاثة اولاد أعمارهم كأعمار "اولاد درعا". لكن الاسد أصر على أنه "يجب التحقيق لبيان من الذي أرسل الاولاد". وأبلغنا، أعني مجموعة المستشارين الكبار في القصر، أنه كما "اقتلعنا أظفار الاولاد، يجب أن نقتلع من الجذور المنظمات الارهابية التي تتسلل الى سوريا بغرض زعزعة استقرار نظام الحكم".
ومن هنا بدأت كرة الثلج تدحرجها. فعزز الاسد قوات الامن في درعا وقويت المظاهرات ردا على ذلك. وفي المرحلة التالية أطلق الجيش النار على عشرين مزارعا فقتلهم وأرسل عشرات من سكان البلدة وفيهم أمهات الاولاد الذين اعتُقلوا الى موقع التحقيق نفسه. وبعد اسبوعين أدرك رئيس سوريا أن هذه الاجراءات قد تكلفه ثمنا باهظا. فأرسل الى درعا في محاولة لاعادة الهدوء موظفين التزموا برفع الأجور البائسة للسكان والعناية بالبنى التحتية المهملة وتعبيد شارع مطور الى دمشق لنقل شاحنات الفواكه والخضراوات. وفي مقابل ذلك أقال ممثلي النظام الذين كانوا يعملون في درعا حتى ذلك الحين. "لكن ذلك كان متأخرا جدا"، يزعم مدين. "واستُقبل وفد التعويض بمظاهرة غاضبة من آلاف السكان. وصاحوا: "لا نريد مالا، نريد احتراما من النظام". ومن هنا انتشرت الانتفاضة في جميع أنحاء سوريا مثل فيروس مُعدٍ".
وبذلك أصبح الربيع العربي "خريف الغضب" وحصل بعد ذلك على العنوان المتشائم "الشتاء الاسود". وتنحصر الأحداث كلها في كرامة المواطن الصغير الفقير الضعيف العاجز، وفي العلاقة بينه وبين القبضة الساحقة لنظام الحكم الاستبدادي. لم يطلبوا في سوريا أول الامر استبدال الزعيم وكذلك كان الامر في تونس ومصر ايضا: فقد كان الهدف استبدال الطريقة لا نظام الحكم؛ واعطاء المواطن قدرا أكبر من الاحترام وقدرا أكبر من الحرية.
من الخيمة الى جائزة نوبل
في المحطة الاولى تونس أحرق بائع الخضراوات محمد بوعزيزي نفسه حتى الموت في كانون الثاني 2011 بعد أن صادر مفتشون عربة بضاعته وبصقت شرطية في وجهه. وفي الاسكندرية في مصر ضرب رجال شرطة طالب الجامعة خالد سعيد حتى مات. وفي ليبيا اغتصب بلطجية اسلاميون نساءً شابات كُن يطُفن بلا محرم. وفي اليمن طرحوا في السجون مواطنين اجتمعوا في الساحة المركزية، وأُطلقت النار على الطاغية علي عبد الله صالح وأُصيب اصابة بالغة في محاولة اغتيال. وصنعت زعيمة الثورة في اليمن توكل كرمان التي نصبت خيمة احتجاج في وسط صنعاء ورفعت راية التمرد، صنعت تاريخا وفازت بجائزة نوبل للسلام.
وحصل الربيع العربي دفعة واحدة على اعتراف دولي ودخل في جدول اعمال الزعماء واجهزة الاستخبارات والباحثين والصحفيين في العالم كله، وتأثر أكثرهم بالصوت الجديد الذي يرتفع من الشوارع ويخيف الحكام. لكن في مرحلة ما فقدت المسيرة الألوان الناعمة المتفائلة وصارت لها ألوان قوية هي ألوان "التخلص" و"الانتفاض" والثورة المسلحة على المستبدين.
واكتسحت رياح الثورة اربع دول هي تونس ومصر وليبيا واليمن. ونجت منها نظم الحكم الملكية خاصة برغم أن جميع الاشارات وجميع البواعث على الانتفاض موجودة هناك ايضا وهي: التجاهل العام لحقوق المواطن، وحالة طواريء تبيح لقوات الامن أن تعتقل مواطنين أبرياء، وفساد في القيادة العليا، وكم أفواه في وسائل الاعلام وتمييز النساء. وبرغم ذلك لا توجد مظاهرات جماعية في المغرب؛ ولا توجد انتفاضة في السعودية؛ وينجح الملك عبد الله في الاردن في البقاء؛ وتمت في البحرين مظاهرات في ميدان اللؤلؤة لكن الأسرة المالكة نجحت في تسكين فورتها.
"ليس هذا عرضيا"، يُبين استاذ الجامعة سعيد عبد الله من الجامعة الامريكية في القاهرة. "فالملوك يتمتعون بصورة حُماة الدولة ويهتمون بأن تكون لهم صورة أبوية نجحوا بفضلها في تسكين الشارع في الوقت المناسب. وللملوك ايضا اجهزة موالية يعرف العاملون فيها أنه اذا سقط الملك فسيسقطون بعده فورا. ويدرك المستشارون الكثيرون المحيطون بالملك ايضا جيدا أن مصيرهم متعلق بربهم الكبير وهم يحرصون على تشمم وتحسس الارض. وقد أغلقوا الأفواه في المغرب بسن قوانين لمصلحة النساء. وفي الاردن استبدلوا اربع حكومات وأعلنوا مكافحة الفساد التي لم تنطلق في طريقها آخر الامر. وفي البحرين خرجوا في عملية دعاية وطنية ترمي الى إثبات أن الملك إبن القلة السنية يُحب الكثرة الشيعية في بلده.
"وفي السعودية كان الامر هو الأسهل: فقد سحب الملك عبد الله محفظته ورفع الأجور رفعا كبيرا وعين ثلاثين امرأة للبرلمان الملكي ووزع على الأزواج الشابة وعلى طلاب الجامعات وعلى المعدمين نفقات سمينة".
وفي كل مرة ظنوا فيها أنه سيكون غليان جندت الاجهزة نفسها لتنفيذ اعتقالات. وكانت الحجة أنهم يحاربون القاعدة. ولم يذكر أحد أنه يوجد في السعودية جيل شاب خائب الأمل وغاضب.
عُسر ويأس وطُغاة مستبدون
إن اقتصاد "الربيع" يتغير بحسب الاجراءات السياسية. ففي مصر مثلا استقر رأي ممثلي ثلاثة اتحادات صناعية دولية – "شل" و "جنرال موتورز" و "الكترو – لوكس" – على وقف عملها في يوم عزل الرئيس مرسي. وأُخرج آلاف المواطنين دفعة واحدة من سوق العمل التي أصابها في السنتين الاخيرتين انخفاض حاد. فحينما لا يكون الحكم مستقرا يهرب المستثمرون.
لا تكاد توجد صناعة في مصر ولا سياحة. والتصدير ينهار. ولا يوجد مال لثقافة الفراغ. ويُقدر خبراء أن الدولة لن تستقر أمورها في السنوات القريبة الثلاث. فالذي يريد أن يحافظ على ماله وليست عنده عاطفة الى بلده يهرب الى خارج البلاد. وعلى حسب تقديرات صندوق النقد الدولي، يوجب تعمير الدول الاربع العربية التي تغير نظام الحكم فيها استثمارات تبلغ 360 مليار دولار في ثلاث سنوات. ويُحذر خبراء من أنه لا كلام عن هبات غير عادية وتبرعات بسبب الازمة الاقتصادية العالمية.
وليس واضحا الى الآن ما الذي أشعل الميادين حقا: أهو الازمة الاقتصادية ويأس الجمهور أم القبضة الحديدية للمستبدين. قبل ثلاثة اسابيع من إغراق آلاف الشباب العلمانيين ميدان التحرير في القاهرة، تم في مصانع المحلة في أطراف العاصمة هياج طلب فيه آلاف العمال الحصول على رفع الأجور الذي وُعدوا به. وتابعت اجهزة الامن ذلك باعتقلت وحققت وأفرجت وأبلغت قصر الرئاسة وهدأت النفوس قائلة "إن الامور تحت السيطرة".
كان وائل غنيم، المسؤول الكبير في "غوغل" الذي اعتُبر بطل الثورة في مصر، موجودا في تلك الايام في إمارة دبي في الخليج العربي ونظم من هناك ايام المظاهرات الثلاثة الاولى. واعتُقل في طريقه الى التحرير وعُذب وسمع التهمة الثابتة وهي "أنت عميل للموساد". وحينما أُفرج عنه انفجر باكيا أمام كاميرات التلفاز وبعد ذلك جاء الى ميدان التحرير. وحينما حاول أن يخطب فوق منصة التكريم، منعوه لأجل الشيخ القرضاوي وهو الداعية الاسلامي الذي جاء خصوصا من إمارة قطر بدعوة من الاخوان المسلمين. وحاول غنيم أن ينضم اليهم بل إن زوجته الامريكية تحجبت، لكنهما يئسا بعد ذلك وابتعدا عن السياسة.
لا يصعب ملاحظة التوجه في السنتين الاخيرتين: فقد حل الاسلاميون محل قادة علمانيين باحثين عن الديمقراطية والحرية والمساواة الكاملة للمواطنين. وفي مصر خان الامريكيون حلفاءهم العلمانيين واستقر رأيهم على دعم الاسلاميين المعتدلين في الدولة لتقدير "وظهر وهمه تماما" أن هؤلاء سيفتحون لهم الأبواب للمعسكر الاسلامي الذي يحتل العالم العربي كله. وفي تونس عُزل الزعيم العلماني زين العابدين بن علي لصالح حركة النهضة الاسلامية. وفي مصر سيطر الاخوان المسلمون على كل المناصب الرئيسة. ولم يوقف فشل الرئيس مرسي الطوفان الاسلامي في كل الدول في العالم العربي تقريبا، ففي الجزائر لم تُستبدل الى الآن السلطة، لكن الاسلاميين المحليين يرفعون رؤوسهم في مواجهة الزعيم المحتضر بوتفليقة. وفي السودان اضطر الحاكم عمر البشير الى أن يلتزم للاخوان المسلمين بأن يغادر القصر في السنة القادمة. ويضغط الاسلاميون ايضا في موريتانيا وجيبوتي والكويت والعراق وفي الممالك الاربع: السعودية والاردن والمغرب والبحرين.
إن الفلسطينيين هم الذين شذوا عن القاعدة. فقد سمعنا هنا وهناك تهديدات في رام الله بمبادرات شارع وتنظيمات لانتفاضة داخلية لكن ذلك لم ينضج ليصبح عملا حقيقيا. "إن ما يحدث في الدول الاخرى يخيف ويقمع"، يقول هشام نوفل وهو طالب للقب الاول في الادارة العامة في جامعة بير زيت. "حتى لو لم يكن أبو مازن هو من يفضله الشباب فانهم لا يقمعوننا كما في الدول الاخرى. فالذي لا يصنع مشكلات يعيش بهدوء. ومن اجتهد وتميز وجد امكانات التقدم. ووضعنا في الحاصل أفضل".
إن أحد التأثيرات البارزة للربيع العربي هو إساءة وضع النساء. في مقالة طويلة لاذعة نشرتها منى تهاوي المصرية المولد في مجلة "فورن أفيرز" تحت عنوان "لماذا يكرهوننا؟" – تحلل التدهور الصحفي. وهي تعرض حالات اغتصاب وتحرش جنسي وقمع وعدم مساواة مطلقا في سوق العمل. وتقول إن الرسالة التي تتلقاها المرأة العربية في السنوات الاخيرة تقول: "تحجبي واجلسي في البيت وأغلقي فمك". وقد تلقت هي نفسها ضربات في مركز اعتقال في القاهرة وكسر رجال الشرطة يديها كي لا تستطيع أن تكتب عما يجري عليها وتُسيء سمعة النظام.
مستوى الكراهية ينخفض
تحرص اسرائيل على الحفاظ على الصمت بازاء البحر الهائج للثورات والزعزعات. وقد حظر رئيس الوزراء بنيامين نتنياهو بتوصية من خبراء الكلام على الوزراء. وفي مقابل ذلك تُصر منظمتا "اسرائيل تبادر" و"مبادرة جنيف" اللتان تعملان على صيغة اسرائيلية لخطة السلام العربية على أن العالم العربي ضعف وأنه يمكن ويجب الحث على عمل سياسي.
وفي هذه الاثناء لا يوجد الكثير ممن يُحادثون، فالحكام في الدول العربية أكثر اشتغالا بما يحدث في شوارع مدنهم وأقل اشتغالا بالمسارات السياسية، لكن يبدو أنه يوجد تحادث تحت السطح. إن عبد الله ملك الاردن قد أمطر رئيس وزراء اسرائيل في المدة الاخيرة بمطر الاطراء وهو ما يشهد على تعاون أمني تحت الطاولة: فعلى حسب أنباء أجنبية نُشرت، تجمع طائرات اسرائيلية بلا طيارين معلومات على طول الحدود الاردنية مع سوريا. ومصر السيسي تنسق مواقفها مع اسرائيل في شأن حرب خلايا الارهاب في سيناء وفي شأن اغلاق الأنفاق في غزة. وقد ندد رئيس لبنان ميشيل سليمان بمحاولات سوريا التحرش باسرائيل.
يبدو اذا أنه برغم أن الربيع العربي لم يأت بالديمقراطية وحرية التعبير والمساواة في الحقوق؛ وبرغم أن السلام مع سوريا لا يبدو في الأفق؛ وبرغم أنه لا يوجد سفير مصري في تل ابيب منذ سنتين – برغم كل ذلك انخفض مستوى إساءة السمعة ومظاهر الكراهية نحو اسرائيل. ويفضل الشارع العربي بعد الثورات أن ينطوي على نفسه. فهم في الأكثر سيُصفون الحساب مع الادارة الامريكية الخائنة. وماذا عن اسرائيل؟ لن تُرى للدول العربية علاقات طبيعية معلنة بنا على أية حال من الاحوال. فالموجود مخبوء تحت الطاولة. وهم يفضلون أن ينسونا حتى إشعار آخر.
هآرتس - مقال - 30/8/2013
سوريا: بين الطاعون والكوليرا
بقلم: يوئيل ماركوس
ربما تكون الصواريخ البحرية الامريكية "توما هوك" في وقت نشر هذه السطور قد أخذت تسقط على سوريا وربما لا تكون. في هذه المرحلة على كل حال، يُحذر الجميعُ الجميعَ. فالامريكيون يُحذرون ايران ألا تتدخل؛ والايرانيون يُحذرون اوباما ألا يدس أنفه فيما يحدث في سوريا (وهم يُذكرونه بالفشل في العراق)؛ وروسيا تُحذر امريكا ألا تقصف، وامريكا تُحذر بوتين ردا على ذلك بغير تهذيب كبير أن يبقى بعيدا لأن المسألة تخصها؛ والاسد يهدد بأنه اذا هاجمت اسرائيل فان سوريا ستكيل لها الصاع صاعين، ويُحذر وزير الدفاع الامريكي اسرائيل في ود بالطبع ألا ترد اذا هوجمت.
إن مكالمة الاسد الهاتفية مع قائد اللواء الكيميائي تشير الى أن القائد، وهو على شاكلة علي حسن المجيد "الكيماوي"، القاتل الشهير من العراق، ربما عمل صدورا عن رأيه الخاص أو اخطأ في تقدير الكمية. لأنه من المؤكد أنه لم يكن من الحكمة تنفيذ قتل كهذا في وقت وجود وفد مراقبي الامم المتحدة في الميدان بالضبط. فهو لا يناسب الاسد الذي ليس هو غبيا.
قُتل 100 ألف انسان في سوريا دون أن يتدخل العالم المتنور أو يحتج احتجاجا حقيقيا. ولا يعلم كبار الطيبين بالضبط لماذا وعلامَ يقتل الناس بعضهم بعضا في واحد من أكثر نظم الحكم استقرارا في منطقتنا. إن الـ 100 ألف هؤلاء ماتوا في الأساس بسلاح تقليدي وبقصف من الجو وبقذائف الدبابات ونيران القناصة. ولم يكن أحد هناك يهمه أن تكون الأهداف المقصوفة مدنية – مباني سكنية وحافلات ومدارس ومستشفيات. فهل يجوز القتل بالسلاح التقليدي اذا ولا يجوز بالسلاح الكيميائي؟ إن للغاز سمعة سيئة منذ كانت الحرب العالمية الاولى. لكن الحديث عن سلاح بدائي ومحدود اذا قيس بالتهديد الذري. ما كانت اليابان في الحرب العالمية الثانية لتستسلم لو أنها قُصفت بقنبلتين كيميائيتين بدل القنبلتين الذريتين.
أتعلمون أنه يوجد في مواثيق دولية كثيرة ما لا يحصى من القيود على استعمال سلاح تقليدي "بسيط"؟، لا يجوز مثلا استعمال رصاص الدمدم والقنابل الفسفورية وأشعة الليزر وقذائف تحتوي على أجزاء لا يمكن التعرف عليها بواسطة أشعة رينتغن، ولا يجوز دفن ألغام في مناطق مدنية، بل لا يجوز خرق حاجز الصوت في مناطق مدنية بسبب الضرر المادي والنفسي بمن يوجدون بالقرب من المكان، فضلا عن استعمال الاولاد دروعا حية وهذه طريقة كانت مستعملة في ايام الرومان وفي المناطق عندنا في ايام الانتفاضتين. اجل، يوجد للقتل موانع ورخص عجيبة.
ما جئت هنا لاستخف بالسلاح الكيميائي الذي لا يُفرق بين مدني وجندي. إن الحديث عن سلاح محدود لكنه قد يسحر الارهابيين جدا، مثلا. ومع ذلك يمكن بالقصف بسلاح مشروع ذبح جموع ولا حاجة الى غاز السارين لقمع اعمال تمرد، فهم لم يستعملوا السلاح الكيميائي في ميدان التحرير.
كلما زاد سفك الدم في سوريا اتجهت العيون الى الرئيس اوباما وقالت الأراجيف إنه بعد أن أخرج الجيش من عدة ميادين قتال لن يتجرأ على أن يورط نفسه في حرب اخرى. وقد قال في مقابلة صحفية مع الـ "سي.إن.إن"، إن قتل 100 انسان في اليوم في هذه الحرب "مقلق". أهو مقلق؟ أهذا كل شيء؟ سأل منتقدوه. ووصف أحدهم هذه الخطبة بأنها نقطة حضيض في سياسة الولايات المتحدة الخارجية. لكن المشاهد المزلزلة لصفوف القتلى الطويلة وفيهم عشرات الاولاد فعلت فعلها فغير اوباما رأيه واستقر رأيه على استعمال القوة لسببين: 1- وقف اضعاف الثقة به باعتباره زعيما عالميا و2- الردع عن استعمال سلاح كيميائي قد يمهد الطريق لاستعمال سلاح ذري تنتجه ايران.
فالهدف هو عقاب سوريا والغاية هي تحذير ايران.
لكن حينما يقفز بوغي يعلون فجأة ويهدد سوريا يصبح عندنا نحن الاسرائيليين سبب للقلق لأنه لا توجد حماقة أكبر من أن ندس أنوفنا بين الاسد والمتمردين، وبين الطاعون والكوليرا.
0 comments: