Monday, August 5, 2013

مجلس أمن المفاوضات

بقلم: أليكس فيشمان
كالعادة تبدأ الأمور عندنا بالتلاعب. بدل الإفراج عن معتقلين أمنيين يمكن أن نحاول استبدال قسم منهم بآخرين، جنائيين مثلاً. وهكذا بدل الإفراج عن كل الـ 104 معتقلين أمنيين حوكموا قبل اتفاقيات أوسلو تفرج عن 82 فقط، وهم من سكان المناطق. الباقون وعددهم 22 يكونون معتقلين فلسطينيين من فترة ما قبل أوسلو ولكن ليسوا «أمنيين».
وقد سبق لنتنياهو ومارس هذه اللعبة في ولايته الأولى العام 1998. عند عودته من مؤتمر واي ريفر واتفاقه هناك على الإفراج عن معتقلين لتحريك العملية السياسية. وبعد وصوله ذُعر من تعهّده، وبدلاً من الإفراج عن معتقلين أفرج عن لصوص سيارات. وثار الفلسطينيون. كان أفضل لو لم يُفرَج عن أحد لأن فعلاً كهذا قضى على بقايا الثقة بين الطرفين.
والفارق هو أن الرئيس الأسبق، كلينتون، كان ولا يزال لطيفاً، ورغم أن وزير الخارجية جون كيري مؤدب، لكنه يستطيع التكشير عن أنيابه. وهو «لطيف» تقريباً مثل جيمس بيكر، في عهد بوش الأب، الذي جرّ من أذنه رئيس الحكومة اسحق شامير لمؤتمر مدريد. والفلسطينيون ذاقوا طعم عدم لطافة كيري. بعد أن سرّبوا يوم الجمعة الفائت تأييد الأميركيين لاستئناف المفاوضات على أساس خطوط 1967 وصلت مكالمة للمقاطعة في رام الله بنبرة عالية ومهددة من كبار مساعدي كيري. هذا قضى على توق الفلسطينيين للتسريب على الأقل حتى الآن. فعلى الكفة كان القرار الرئاسي بمنح الفلسطينيين 150 مليون دولار كمساعدة. كما أن كيري أوقف التفافات نتنياهو مع قصة المعتقلين الأمنيين، وقال: ليس 82 وإنما 104. انتهى الموضوع. وأوضح: هذا بالضبط ما تعهّدتُ به للفلسطينيين.
وخلال المداولات حول خطوات بناء الثقة اقترح طاقم كيري سلسلة أفكار. مثلاً، تمكين الفلسطينيين من الانضمام لعضوية جزء من مؤسسات الأمم المتحدة. والمقصود مؤسسات أقل إشكالية لإسرائيل، مثل وكالة البريد، ومن النوع الذي تمنح أبو مازن أفضلية دعائية في طريق الاعتراف الدولي بالدولة الفلسطينية المستقلة. ولكن الفكرة سقطت. واقترح الأميركيون أيضاً الإفراج عن 250-300 معتقل أمني تختارهم إسرائيل، ليس بالضرورة مما قبل أوسلو.
وقد أفلح كيري في دفع رئيس الحكومة نحو الزاوية التي اضطر فيها للتعهد بمبادرة إسرائيلية من طرف واحد من بين ثلاثة احتمالات وضعت على الطاولة. فكرة الاعتراف بحدود 67 كأساس للمفاوضات، وقد رفضت، لأن نتنياهو يرى فيها موافقة مسبقة على نتائج المفاوضات النهائية. وكانت الموافقة العلنية على تجميد الاستيطان في المناطق ستركّز المفاوضات على قضية الاستيطان، وهو ما أراد تجنّبه. وهكذا بقي نتنياهو مع الخيار الثالث: تحرير القتلة.
لقد قيد نتنياهو إلى وضع كان عليه فيه أن يتخذ قراراً زعامياً، لا ينال تأييد الشاباك. ولكن في المداولات الداخلية التي أجريت في رئاسة الحكومة بحضور وزراء أعضاء المجلس الوزاري المصغر، أفلحوا بصعوبة في العثور على «تبرير» للخطوة: أصلاً هؤلاء معتقلون كان يُفترض الإفراج عنهم العام 1993، حينما أفرغت إسرائيل المعتقلات من آلاف المعتقلين الأمنيين في إطار اتفاق أوسلو. ويواصلون في محيط نتنياهو القريب الإصرار على أنه لم يتعهّد أبداً الإفراج عن معتقلين أمنيين من عرب إسرائيل (بمن فيهم من شرقي القدس) ومن هنا ظهر رقم 82 معتقلاً أمنياً مما قبل أوسلو ليسوا عرباً إسرائيليين.
ورشة إعادة تربية
تحدث وزير الدفاع موشي يعلون هذا الاسبوع عن «اضطرار استراتيجي» حيوي جداً لمصالح إسرائيل، ألزم رئيس الحكومة باتخاذ القرار الصعب للإفراج عن قتلة ملطخة أياديهم بالدماء. وكان هناك من فسر ذلك على أنه تعهد من الرئيس أوباما لإسرائيل في الشأن الإيراني، أو في قضايا استراتيجية أخرى. لكن الأمر ليس كذلك. فالاضطرار الاستراتيجي يتعلق مباشرة بقلة لطافة كيري. إذ أوضح وزير الخارجية لإسرائيل أنها إذا لم تنفذ تعهدها بالإفراج عن 104 معتقلين، فسوف يتهم إسرائيل بتفجير المحادثات، بكل ما يعنيه ذلك على مكانتها الدولية. يمكنكم تسمية ذلك بالتهديد، أو إعادة التربية: أنا، وزير الخارجية الأميركي، لست مستعداً للضحك على ذقني. عندما أعطي كلمة لأحد الطرفين، لا مجال لعدم الوقوف خلفها.
ومشكوك فيه أن يقدر نتنياهو على تكرار ألعوبة السجناء الجنائيين. في محيطه يقولون إنه لا جدوى من الجدال: فالفلسطينيون لن يخيّبوا أملنا، وهم سيفجّرون المحادثات قبل ذلك. ويقدرون في محيط نتنياهو أنه يصعب تصديق أن الفلسطينيين سيوافقون على الاعتراف بإسرائيل دولة قومية يهودية والإعلان عن نهاية المطالب.
وفي هذه الأثناء، فيما يتحدث وزير الدفاع عن «اعتبارات استراتيجية» خلف تحرير المعتقلين، يدير رجاله من خلف الكواليس خطوة استراتيجية فعلية، ستؤثر مباشرة على المفاوضات مع الفلسطينيين والعلاقات الأمنية مع الولايات المتحدة. وابتداء من شهر أيار هذا العام تعمل لجنة مشتركة إسرائيلية أميركية، تفحص احتياجات إسرائيل الأمنية في إطار اتفاق سلام مع الفلسطينيين. ويفهم كيري أنه ملزم بإزالة «العائق» الأكبر (في نظر طرف) أو «الذريعة» لعدم الجلوس للتفاوض (في نظر الطرف الآخر): قضية أمن إسرائيل.
في العام 2007 بعد مؤتمر أنابوليس، عين الرئيس جورج بوش الجنرال جيمس جونز لمعالجة مشاكل إسرائيل الأمنية. لكن جونز لم يلق تعاوناً هنا. فقد اعتبرته إسرائيل جهة سياسية متعاونة مع الفلسطينيين. وفي العام 2009 تم إرسال الجنرال جون ألان الذي كان على وشك تعيينه قائداً لقوات الناتو في أفغانستان، فأدار حواراً مع المؤسسة الأمنية وبلور وثائق عدة تخدم حتى اليوم كأساس للمداولات بعد مبادرة كيري. وأنهى ألان منصبه في أفغانستان وكان يفترض أن يقود الناتو في أوروبا، لكنه استقال مطلع 2013.
وحينما بدأ كيري في آذار الفائت محاولاته لتحريك المفاوضات طلب من وزير الدفاع تشاك هايغل الجنرال ألان كرئيس طاقم لفحص احتياجات إسرائيل الأمنية في المفاوضات مع الفلسطينيين. وبارك الرئيس أوباما ذلك ومن شهر أيار بدأ الجنرال ألان عمله مع إسرائيل. وخلافاً للجنرال جونز، القيادة الإسرائيلية معجبة به وتكيل له الثناء: جدي، كاريزمي، جوهري وجنرال لامع. كل الأبواب مفتوحة أمامه بما فيها رئيس الحكومة ووزير الدفاع.
ومن محادثاته مع جهات أميركية ذات صلة بالمفاوضات السياسية يظهر أن الجنرال ألان أنشأ هنا طاقماً من 20 رجل أمن – ضباطاً كباراً في الخدمة الفعلية والاحتياطية؛ وهم رجال عملوا معه في وزارة الدفاع سابقاً، ورجال الملحقية العسكرية في تل أبيب وضباط من قوة التنسيق مع الفلسطينيين. وإلى جانبهم جند خبراء مدنيين في مجالات معينة، مثل حماية الحدود. ويعمل هذا الطاقم من ثلاث قواعد: واشنطن، السفارة الأميركية في تل أبيب والقدس. ويقيم الفرع المقدسي علاقة مع الفلسطينيين، رغم أن هذا ليس ضمن تفويض الطاقم.
وتعمل مقابل الطاقم الأميركي لجنة إسرائيلية دائمة برئاسة رئيس شعبة التخطيط الجنرال نمرود شيفر، إلى جانب رئيس الطاقم السياسي الأمني في وزارة الدفاع، عاموس جلعاد. وتضم اللجنة أعضاء من الشاباك، يبحثون مع الأميركيين مسألة السيطرة الاستخبارية بعد خروج الجيش الإسرائيلي من المنطقة. والمشرف الأعلى على الطاقم الإسرائيلي هو وزير الدفاع.
في هذه اللجنة لا يرسمون خرائط، بغية عدم دخول حقل ألغام سياسياً. لكنهم يحاولون الإجابة عن الأسئلة المركزية التي يثيرها نتنياهو مرة تلو مرة: ماذا لو خرجنا وأقام الفلسطينيون دولة مستقلة، كيف سنمنع تحويل الضفة إلى غزة ثانية؟ وتفكك هذه المسألة في الإطار الأميركي - الإسرائيلي إلى مئات القضايا والمعضلات: ما هي الوسائل الأمنية على الحدود بين الأردن والضفة؟ كيف نحمي مطار اللد من نيران الضفة؟ هل ينبغي نشر قوات متعددة الجنسيات في الضفة؟ كيف نمنع سيطرة جهات جهادية على الضفة؟ ماذا سيحدث إن سقط النظام الأردني؟ كيف ستبدو الضفة منزوعة السلاح، مع وجود قوات فلسطينية مسلحة؟ كيف سيتم الدفاع عن الكتل الاستيطانية؟ ماذا سيجري إذا طلبت إسرائيل من الفلسطينيين تنفيذ اعتقالات أو تسليم عناصر إرهابية؟ هل التسليم تبادلي؟ هل ستواصل إسرائيل السيطرة على محطات إنذار وجمع معلومات استخبارية في الضفة؟
تحلية بأربعة مليارات
في نظر نتنياهو ويعلون لا وجود لشريك فلسطيني يمكن الركون إليه. عندهما، كل منطقة تسلم للفلسطينيين تغدو مركزاً إرهابياً. الأميركيون ينتظرون من إسرائيل أن تعرض المشاكل، وهم سيوفرون الحلول. وهم يدركون أن الأخطار التي تشير لها إسرائيل مبالغ فيها أحياناً، ويأخذون ذلك بالحسبان. ولكن يفترض أن تقدم اللجنة في نهاية المطاف وثيقة أميركية - إسرائيلية، تعترف فيها أميركا بالأخطار المحتملة لإسرائيل والحلول المطلوبة.
وتعمل اللجنة بدأب، فيما الجنرال ألان نفسه يصل إسرائيل حينما تصل المداولات في قضية ما إلى النضج الذي يتطلب قراراً. وتقدر إسرائيل أن تنهي اللجنة عملها خلال شهور معدودة.
من ناحية إسرائيل، هناك ميزة أخرى لهذه اللجنة. إذا بلغت المفاوضات مرحلة البحث في الملحق الأمني لمعاهدة السلام، فسيكون بين يديها تفاهمات واتفاقات مع الإدارة الأميركية. فعلا مثلما سيقف الفلسطينيون أمام إسرائيل ولديهم تفاهمات مع الأميركيين بشأن القضايا الاقتصادية. وخلال المفاوضات سيطلب من إسرائيل منح الفلسطينيين المزيد من حرية الحركة، وتصاريح انتقال أكثر للناس والبضائع من الضفة، والموافقة على مشاريع بنى تحتية وسياحة – في مناطق «ج» أيضاً الخاضعة للسيطرة الإسرائيلية التامة. وهذا ليس كل شيء. يتبين أن ما بدأ كلجنة لها تفويض محدود في مسألة الأمن توسّعت لمواضيع أخرى. فمناقشة حدود إسرائيل مع غزة، يفترض بها أن تنزلق إلى قضايا أوسع في الشرق الأوسط، تتعلق بالتغييرات الإقليمية المثيرة الجارية في العامين الأخيرين.
وهذا يتمدد لدوائر أخرى. لدول الجامعة العربية الداعمة للعملية السلمية، مثل السعودية، الأردن ودولة الإمارات، والتي لها مصالح مشتركة مع إسرائيل. صحيح أن ممثلي إسرائيل لا يتواجدون في الغرفة نفسها مع السعوديين والقطريين، لكن الأميركيين قادرون بتأكيد التوسط ونقل معلومات من طرف لآخر. ويشكل دعم الجامعة العربية للعملية ليس فقط إسناداً لأبو مازن، وإنما إغراء لإسرائيل أيضاً، لأن نجاح المفاوضات سيفتح أمامها أبواب أكثر من 50 دولة مسلمة. وكيري شخص ذكي. ومثلما منح الفلسطينيين القدم الاقتصادية 4 مليارات دولار لدعم البنية التحتية الفلسطينية، فإنه يمسك إسرائيل بترتيبات أمنية واسعة النطاق. وهذه الأحزمة الأمنية تخلق للطرفين حوافز لإظهار مرونة. ويرى كيري أن هذا ما قد يقود إلى نجاح المفاوضات هذه المرة.
المصدر:
Previous Post
Next Post

About Author

0 comments: