هآرتس"، 26/10/2017
شلومو أفينيري - مدير عام سابق لوزارة الخارجية وأستاذ العلوم السياسية في الجامعة العبرية
•إن أهمية تصريح بلفور بالنسبة لتاريخ الصهيونية وفي قيام دولة إسرائيل واضحة. ولهذا السبب تحديداً يجب التعمق بمناسبة مرور 100 عام في فهم علاقاته الدولية وعناصر صياغته، وما تضمنه وما لم يتضمنه.
•المفتاح هو في الجملة الاستهلالية، وبحسبها "إن حكومة صاحبة الجلالة تنظر بعين العطف إلى إقامة وطن قومي في فلسطين للشعب اليهودي في أرض إسرائيل". لكن إلى جانب هذه العبارة، يجب أن ننتبه إلى ما لم تشتمل عليه رسالة وزير الخارجية البريطاني إلى اللورد روتشيلد. فهي لم تتحدث عن قيام دولة يهودية، ولا عن تحويل أرض إسرائيل إلى دولة يهودية، بل عن "وطن قومي".
•ولم يرد في التصريح أن أرض إسرائيل ستتحول إلى وطن قومي للشعب اليهودي، إنما تحدث عن قيام وطن قومي فيها. وهذه صياغة غامضة مقصودة، ستكون مع مرور السنوات مفتوحة امام تفسيرات كثيرة ومتناقضة. علاوة على ذلك، فقد قيل بعد ذلك مباشرة أنه ليس فيه مساس بالحقوق المدنية والدينية للطوائف غير اليهودية في البلد، وعلى الرغم من أن العرب والفلسطينيين لم يُذكروا صراحة، فقد كان من الواضح انهم هم المقصودون.
•للمرة الأولى حصلت الحركة الصهيونية بهذا التصريح على دعم سياسي للهدف الذي صيغ في برنامج مؤتمر بازل في سنة 1897: قيام وطن قومي (Heimstatte) للشعب اليهودي في أرض إسرائيل. لقد حاول هرتسل خلال سنوات تحركه الدولي المكثف تحقيق ذلك من خلال الحصول على وثيقة من السلطنة العثمانية، لكنه لم ينجح في ذلك، وحتى نشوب الحرب العالمية الأولى لم ينجح الهستدروت الصهيوني التقدم نحو تحقيق هذا الهدف.
•مع نشوب الحرب وجدت الحركة الصهيونية نفسها في خضم أزمة عميقة، فالجزء الأكبر من قيادتها كان في ألمانيا وفي الإمبراطوية النمساوية - الهنغارية، بينما الجزء الأكبر من مؤيديها وأعضائها جاؤوا من الإمبراطورية الروسية التي كانت تشتمل آنذاك على الجزء الأكبر من أراضي بولندا التاريخية (بما في ذلك أوكرانيا وليتوانيا). لقد فصلت الحرب القيادة الصهيونية عن قاعدتها الاجتماعية، وفي ضوء هذا الواقع تقرر أن تلتزم الحركة الصهيونية الحياد. وانتقل مركز النشاطات إلى كوبنهاغن، وحيث كان في الإمكان من هناك إجراء صلات مع مواطني الدول التي تتقاتل من الطرفين.
•لقد كان هذا قراراً حذراً وحكيماً، لكنه عملياً حيّد الحركة الصهيونية. وكان أحد إنجازات حاييم وايزمن الكبيرة، الذي كان يقيم آنذاك في مانشستر في إنكلترا، وأدرك أن مصير العالم - ومستقبل أرض إسرائيل - سيتحدد في الحرب، وأن وقوف الحركة الصهيونية على الحياد يعني أنها تضع نفسها خارج مجموعة القوى التي تنشط في الساحة الدولية. صحيح أن قوة الحركة الصهيونية كانت صغيرة، لكن الحياد، مع أنه كان موقفاً، أدى إلى تقزيمها أكثر.
•بعد انضمام السلطنة العثمانية إلى الحرب، أصبح واضحاً أن أرض إسرائيل ستحتلها مستقبلاً بريطانيا، وكان وايزمن من بين الذين فهموا أن على الحركة الصهيونية أن تجد سبيلاً للتأثير في من سيحددون مستقبل البلد بعد الحرب. هذا الفهم السياسي لوايزمن هو الذي شجعه على استخدام صلاته لإيصال كلمة الحركة الصهيونية إلى مقرري السياسة البريطانية.
•يجب ألا ننسى أن وايزمن لم يكن يتبوأ مركزاً قيادياً في الحركة الصهيونية. لقد كان معروفاً لكنه كان أحد نواب رئيس الاتحاد الصهيوني في بريطانيا، واتصالاته بالقيادة البريطانية أجراها بصورة مستقلة من دون تفويض من القيادة الصهيونية، التي أدى حيادها الرسمي عملياً إلى شلها، وكان هناك من رأى في هذه التحركات مغامرة غير شرعية وحتى خطرة.
•إن السياق الأوسع لتصريح بلفور يتعلق بظروف دخول الولايات المتحدة الحرب إلى جانب بريطانيا وفرنسا وروسيا في ربيع العام 1917. لم تدخل الولايات المتحدة الحرب بسهولة، وكان هناك جمهوران أميركيان عارضا ذلك، بالإضافة إلى موقف أميركا التقليدي بعدم التورط في النزاعات الأوروبية. هذان الجمهوران كانا المهاجرين الألمان واليهود.
•عندما ننظر إلى الوراء تبدو هذه شراكة غريبة، لكن لم يكن الأمر هكذا في العقد الثاني من القرن العشرين. جالية المهاجرين الألمان التي بلغ عددها آنذاك بحسب التقدير نحو 20 مليون مواطن أميركي، كانت تنتمي في جزء منها إلى تنظيم قوي هو "البوند الألماني" الذي بالإضافة إلى تركيزه على المحافظة على الهوية الثقافية وعلى اللغة، لم يشأ أن يرى وطنه الجديد يدخل في حرب ضد أرض تراثه التاريخي. لقد كان الجمهور اليهودي أصغر بكثير، وكان هناك مستويان في المعارضة اليهودية للدخول في الحرب.
•كانت الزعامة اليهودية التقليدية آنذاك بيد ارستقراطية المال اليهودي المؤلفة أساساً من يهود من أصول ألمانية. لم تشأ الزعامة اليهودية أن تدخل الولايات المتحدة في حرب ضد ألمانيا التي حافظت على صلات مهمة مع شعبها ومع ثقافتها ومع اليهود فيها. من جهة أخرى، فإن أغلبية المهاجرين اليهود من أصول أوروبية شرقية جاؤوا إلى الولايات المتحدة خلال موجات الهجرة الجماعية بعد المذابح التي حدثت في 1881-1882 في روسيا، لم تتحمس لفكرة دخول بلدهم الجديد في حرب إلى جانب نظام القيصر الذي هربوا منه. ونشأت بين الجمهور الألماني والجمهور اليهودي علاقات سياسية من خلال تشاركهما معارضة الدخول في الحرب ضد ألمانيا وإلى جانب روسيا.
•لقد كان الهدف الأساسي لتصريح بلفور بالنسبة إلى بريطانيا هو تقليص المعارضة اليهودية في أميركا للمشاركة في الحرب. ومن بين أسباب الكتابة إلى اللورد روتشيلد أيضاً الاعتبار بأن علاقات عائلة روتشيلد مع أصحاب الثروات بين اليهود في نيويورك ستساهم في هذه المهمة.
•في الذاكرة التاريخية الصهيونية يُذكر الأسيتون [الذي اكتشفه وايزمن وكان مادة مهمة للجيش البريطاني] والذي مكّنه من الوصول إلى مقرري السياسية في لندن، كما أنه تمتع بالقدرة على الإقناع واستثارة مشاعر دينية عميقة، خاصة لدى لويد جورج. لكن الذي حسم الأمر كان الواقعية – السياسية التي وجهت يهود الولايات المتحدة. ومن دواعي السخرية، أنه بالتحديد في الأيام التي نُشر فيها التصريح، استولى لينين والبولشفيون على السلطة في بترسبورغ - الخطوة التي أخرجت روسيا من دائرة الحرب.
•ثمة مفارقة أخرى لا تواجهها الذاكرة الصهيونية دائماً بصورة كافية، هي حقيقة أن تصريح بلفور أُعطي بصورة رسالة شخصية إلى اللورد روتشيلد، لكن في ذلك الوقت لم تكن بريطانيا احتلت أغلبية أرض إسرائيل، ولم يكن مضموناً البتة أنها ستسيطر على البلد. لكن الحكومة البريطانية قررت إعطاء التصريح، كانت طرفاً في اتفاقية سايكس بيكو (التي كانت حينها اتفاقاً سرياً)، ومعنى ذلك أن بريطانيا وفرنسا كانتا ستسيطران بصورة أو بأخرى على الأراضي التي احتلتاها من السلطنة العثمانية في الشرق الأوسط.
•إن حقيقة ارتباط لندن أيضاً بالوعود التي أعطتها إلى الشريف حسين في مكة (بواسطة الاستخبارات البريطانية بإيحاء من لورنس "العرب")، والتعارض بين هذه الوعود وتصريح بلفور (على الرغم من صيغته الغامضة)، لاحقت بريطانيا طوال فترة حكمها في البلد.
•لكن الإنجاز الكبير الذي حققه وايزمن لم يكن إصدار تصريح بلفور، بل تحديداً الخطوات الأقل دراماتيكية، المعروفة أقل والصغيرة التي حدثت بعد ذلك، والجهود التي لم تتوقف لربط التصريح المقدم بإعلان الترتيبات السياسية التي ستلي الحرب.
•بدأ هذا النشاط المحموم لوايزمن خلال الحرب. ومع احتلال بريطانيا جنوب البلد في نهاية 1917، نجح وايزمن في إقناع السلطات في لندن بالسماح لوفد صهيوني برئاسته بالقيام بزيارة للبلد. لم تحدد بوضوح صلاحيات هذا الوفد (الذي سمي في الوثائق البريطانية The Zionist Commission وفي العبرية "لجنة المبعوثين")، لكن مجرد وصوله كان مؤشراً على مكانة الحركة الصهيونية في البلد الذي أصبح واقعاً تحت الحكم العسكري البريطاني.
•وبالإضافة إلى ذلك، لم تحصل لجنة المبعوثين على أي تفويض من القيادة الصهيونية الرسمية، التي طالبت باستمرار التزام الحياد. لقد حدد تركيبة الوفد وايزمن نفسه وشمل شخصيات من دول المحور مثل بريطانيا وفرنسا وإيطاليا.
•وصلت لجنة المبعوثين إلى البلد، وتصرفت من دون تفويض واضح كأنها هي التي تحكم البلد وليس الحكم العسكري البريطاني برئاسة الجنرال أللنبي. واستقبل وايزمن ورفاقه استقبال الملوك في القدس وتل أبيب وفي مستوطنات يهودية أخرى.
•وأضاف انضمام ضباط بريطانيين يهود بلباسهم العسكري (بينهم جايمس روتشيلد، وإدوين صموئيل ابن المندوب السامي البريطاني الأول في البلد)، لمسة رسمية على ظهورهم. وقرر وايزمن أيضاً وضع الحجر الأساس للجامعة العبرية في جبل سكوبس [جبل المشارف]، مستنداً إلى حقوق ملكية الهستدروت الصهيوني لهذه الأرض.
•وبهذه الطريقة، ومن دون صلاحيات رسمية صهيونية ولا بريطانية، أقامت لجنة المبعوثين عملياً البنية التحتية لما سيصبح في ما بعد المؤسسة الذاتية لليشوف اليهودي في البلد - كنيست إسرائيل وجمعية المُنتخبين. لم يحب الجنرال أللنبي هذه الخطوات التي كانت عملياً بمثابة إقامة نوع من حكم مواز للحكم العسكري. وهو وجّه احتجاجاً إلى لندن لكن هذا لم ينفع، فقد نجح وايزمن في فرض وقائع على الأرض.
•التحرك التالي لوايزمن جرى في الساحة الدولية. وقتها لم يكن واضحاً تماماً من سيسيطر على البلد بعد الحرب، وأبقت الحدود التي رُسمت في اتفاقية سايكس - بيكو مجالاً كبيراً لعدم الوضوح وللنزاع بين بريطانيا وفرنسا. لقد كان وايزمن مصراً على إبقاء السيطرة بيد بريطانيا فقط، بعكس رأي عضو الإدارة الصهيونية ناحوم سوكولوف، الذي بسبب علاقاته مع الفرنسيين طالب بحكم مشترك، بريطاني- فرنسي.
•اعتبر وايزمن هذه المحاولة خطرة وحمقاء: كان هناك التزام واضح من جانب بريطانيا أمام الحركة الصهيونية من خلال تصريح بلفور، بينما كانت اعتبارات فرنسا في المنطقة مختلفة نظراً لعلاقتهم بالموارنة وجماعات مسيحية أخرى. ونجح وايزمن في إحباط جهود سوكولوف التي كان هدفها التآمر ضد إنجاز تصريح بلفور: في مؤتمر سان ريمو في نيسان/أبريل 1920 قررت دول المحور نقل فلسطين إلى الحكم البريطاني.
•إن انتقال الحكم في المنطقة من خلال عصبة الأمم إلى بريطانيا وفرنسا جرى ضمن إطار جديد هو نظام الانتداب الذي تعهدت من خلاله الدول العظمى قيادة الدول الجديدة التي نشأت (سورية، لبنان، العراق، وأرض إسرائيل) نحو الاستقلال. لكن في ما يتعلق بأرض إسرائيل قررت عصبة الأمم تدابير خاصة، فقد أدخلت مبادئ تصريح بلفور في صك الانتداب في البند 2 الذي جاء فيه أن حكومة بريطانيا تتعهد بالسعي لإقامة وطن قومي للشعب اليهودي، وفي البند 4 الذي نص على تأليف "الوكالة اليهودية" وأنها تمثل الحركة الصهيونية.
•حوّل صك الانتداب تصريح بلفور من وثيقة بريطانية إلى جزء من القانون الدولي. وهذا الأمر وليس التصريح، هو الذي أضفى طابعاً رسمياً على إقامة وطن قومي للشعب اليهودي بالنسبة إلى العلاقات الدولية والقانون الدولي. وهو أيضاً فرض على بريطانيا العمل على تحقيق هذا الهدف، مع التحفظات التي مصدرها أيضاً تصريح بلفور الذي يتطرق إلى حقوق الطوائف غير اليهودية. وفرض صك الانتداب أيضاً على القوة العظمى الانتدابية تقديم تقارير إلى لجنة الانتداب في عصبة الأمم بشأن تحقيق أهداف الانتداب: في العشرينيات والثلاثينيات قدمت تقارير بريطانية دورية إلى جنيف، بعد احتجاج مندوبين عن العرب وعن اليهود، كل واحد من الطرفين على حدة، على سياسة بريطانيا.
•عشية المناقشة لتضمين مبادئ تصريح بلفور في صك الانتداب، اضطر وايزمن الذي انتخب حينها رئيساً للهستدروت الصهيوني ومركزه لندن، إلى الدخول في مواجهة مع ممثلين يهود آخرين أقل خبرة ومعرفة منه بالعالم.
•لقد طالب على سبيل المثال "أحباء صهيون" بأن يتضمن صك الانتداب علناً التزاماً بريطانياً بتحويل أرض إسرائيل إلى دولة يهودية، وألا يكتفي بصيغة غامضة عن الوطن القومي. لم يكن دائماً من السهل على وايزمن كبح مثل هذه المطالب غير الواقعية، إذ كيف يمكن أن توافق عصبة الأمم المؤتمنة على مبدأ حق تقرير المصير، على سياسة تمنح اليشوف اليهودي الذي كان يشكل آنذاك 10% من مجموع سكان البلد، السيطرة على الـ90% الباقين؟ في نهاية الأمر حظي موقف وايزمن الواقعي والرصين بموافقة المؤسسات الصهيونية، وبهذه الطريقة سُجّل في صك الانتداب الإنجاز الكبير الأول للحركة الصهيونية.
•من الواضح أن الصيغة المعقدة لتصريح بلفور وصك الانتداب وضعا بريطانيا في وضع مستحيل، فقد كان عليها تربيع الدائرة: الدفع قدماً بقيام وطن قومي للشعب اليهودي في أرض إسرائيل، وأيضاً عدم المساس بحقوق السكان العرب الذين أخذت مواقفهم تتحدد أكثر فأكثر من الناحية الوطنية. في نهاية الأمر خرج البريطانيون خاسرين من هنا ومن هناك.
•حالياً يبدو المسار الناتج عن تصريح بلفور في 29 تشرين الثاني/نوفمبر أمراً مفروغاً منه وحتمياً تقريباً، لكن هذا ليس صحيحاً. لقد كان من الممكن أن تطرأ الكثير من العراقيل على سيرورة الحرب والتسويات التي أعقبتها. إصرار وايزمن فقط ساعد في تحويل وثيقة برطيانية أحادية الجانب صيغت في خضم الحرب، إلى أن تكون الحجر الأساس للحكم البريطاني في البلد وفي القانون الدولي. لقد فهم وايزمن أنه في هذه الدينامية المتحركة للحرب، يجب القيام بمبادرة حتى من دون تفويض من مؤسسات الحركة الصهيونية. وهو عمل من أجل تفسير تصريح بلفور كترخيص للبدء في إدارة البلد خلال فترة الحكم العسكري البريطاني وكشركاء في تحديد أنظمة الحكم المستقبلية، وعرف كيف يوجه خطواته السياسية بحيث لا يتحول التصريح البريطاني إلى قصاصة ورق عديمة الأهمية كما جرى لوثائق كثيرة أخرى وقعت خلال فترة الحرب ومباشرة بعدها.
•إن تضافر الإصرار والمرونة كان دائماً يقوي الحركة الصهيونية في تحركاتها قبيل تحقيق الاستقلال، وساعدها الحظ بأن يكون لديها زعماء عرفوا الجمع بين هاتين الميزتين بصورة ذكية، وأيضاً من أجل جمع التأييد في الداخل والخارج.
0 comments: