القوة الناعمة والمنطقة الآمنة قد تخدمان المصالح الأمريكية في سوريا حتى بعد الانسحاب
متاح أيضاً في English
19 شباط/فبراير 2019
في 19 كانون الأول/ديسمبر 2018، فاجأت إدارة ترامب المجتمع الدولي بإعلانها سحب القوات الأمريكية من سوريا. وفي حين بدأ البنتاغون بصياغة استراتيجية الانسحاب، لا يزال الإطار الزمني للمغادرة غير مؤكد وقد يمتد على عدة أشهر. ومع انطلاق عجلة العملية أساسًا، يواصل الرئيس السوري بشار الأسد توطيد سلطته ضد قوات المعارضة، في حين تمكّن تنظيم "الدولة الإسلامية" من الاحتفاظ ببعض الأراضي في سوريا.
وبناءّ على هذه الخلفية، يجب أن تركز الإدارة الأمريكية الحالية على التكتيكات التي لا يزال بإمكانها تطبيقها من أجل تحقيق أربعة أهداف رئيسية وهي: الحؤول دون معاودة ظهور "الدولة الإسلامية"؛ وردع إيران وروسيا وتركيا و"حزب الله" عن السيطرة على كامل سوريا؛ وإعداد استراتيجية طويلة الأمد لحماية حلفاء الولايات المتحدة على الأرض؛ ووضع حدّ للحرب الأهلية الدائرة في سوريا من خلال محادثات سلام برعاية الأمم المتحدة. وتظهر أمام الولايات المتحدة اليوم فرصة وضع آليات من شأنها المساعدة على تحقيق هذه الأهداف وسط تأمين الانسحاب السالم لجنودها في الوقت نفسه والتركيز على تدابير دائمة لحماية حلفائها، إلى جانب مساعي القوة الناعمة لتعزيز الاستقرار في سوريا على المدى الطويل.
التعديلات العسكرية على المدى القصير
من أجل ضمان سلامة الجنود الأمريكيين خلال عملية الانسحاب، يتعين على البنتاغون إنشاء نقاط مراقبة وإشراف في جميع أنحاء شمال شرق سوريا، بخاصةٍ في المناطق ذات الأغلبية الكردية. وستخدم نقاط المراقبة والإشراف هذه هدفًا مزدوجًا: ضمان الانسحاب السالم للجنود الأمريكيين وتفادي أي هجمات على الحلفاء على غرار "قوات سوريا الديمقراطية" من تركيا أو الميليشيات السورية المتطرفة أو نظام الأسد أو "الدولة الإسلامية".
وبالفعل، وبدلًا من الانسحاب الكامل، يمكن للولايات المتحدة القيام بالكثير من أجل تحقيق أهدافها في سوريا من خلال نشر نحو 600 جندي في نقاط المراقبة هذه في شمال سوريا ما إن ينتهي الانسحاب الأساسي. ولن تساهم هذه القوة الصغيرة في منع تركيا وغيرها من القيام باستهداف الأكراد في سوريا فحسب، بل ستكون أيضًا بمثابة قواعد أمريكية إضافية مصممة لردع التوسّع الإيراني على طول التنف - وهي قاعدة قد تبقيها إدارة ترامب مفتوحةً عقب الانسحاب الأساسي.
ومن أجل أن تكون أي مساعي قوة ناعمة لاحقة فعالةً، يجب أن تضمن سياسة الولايات المتحدة خلال الأشهر القليلة المقبلة على نحو أكبر أن يتمتع أكراد سوريا بالأمان وبالحرية السياسية عقب الانسحاب. وإنّ السياسة الأكثر فعاليةً لضمان ذلك هي إنشاء منطقة آمنة أو منطقة حظر جوي" نموذج كردستان العراق" في شمال شرق سوريا تحت رعاية دولية بمساعدة المملكة المتحدة وفرنسا والسعودية والإمارات. وستقف هذه المنطقة الآمنة في وجه الخطط التركية الرامية إلى إنشاء منطقة نفوذ خاصة بها في شمال شرق سوريا تهدد الأكراد السوريين في المنطقة.
ومن شأن المنطقة الآمنة الخاضعة لإشراف دولي، إلى جانب قواعد استراتيجية أمريكية، أن تساهم مساهمةً كبيرة في إحباط خطط طهران الرامية إلى تشكيل "هلال شيعي" سيسمح لها بممارسة نفوذها من العراق مرورًا بسوريا ووصولًا إلى لبنان. وعلى نحو خاص، قد يشكّل أكراد سوريا في المنطقة الآمنة حاجزًا أمام التوسّع الإيراني ويقطعون الدعم عن "حزب الله" ويمنعون طهران من النفاذ إلى مصادر الطاقة من النفط والغاز.
القوة الناعمة على المدى الطويل
إلى جانب التعديلات العسكرية القصيرة الأمد المصممة لدعم الهيكليات المؤسسية المتلائمة مع الأهداف الأمريكية في المنطقة، يتعين على الولايات المتحدة أن تعزّز مصالحها من خلال اللجوء إلى الاستثمار في القوة الناعمة على المدى الطويل من أجل الحدّ من نفوذ خصومها الإيديولوجيين.
وتعتبر المساعدة التنموية أحد إجراءات القوة الناعمة الضرورية بشكل خاص التي يمكنها أن تساعد الولايات المتحدة على تعزيز مصالحها في سوريا. ونظرًا إلى أن سوريا بلد غني بالموارد الطبيعية، يمكن لوكالات حكومية أمريكية على غرار "الوكالة الأمريكية للتنمية الدولية" (USAID) أن ترسل خبراء ميدانيين من أجل إعداد خطط لتحسين البنية التحتية الاقتصادية السورية في مرحلة ما بعد الحرب. فعلى سبيل المثال، يمكن لوكالات الإغاثة المساعدة على إيجاد سبل لتوليد الطاقة الشمسية والمائية واعتماد خطط للتنمية الزراعية لزيادة الإنتاج الزراعي وبناء أنظمة الري ومحاربة التصحّر والجفاف. وسيُظهر نشاط إعادة الإعمار الجلي حسن نيّة الولايات المتحدة تجاه السوريين ويحدّ في الوقت نفسه من مساعي مماثلة تقوم بها روسيا أو إيران أو تركيا أو تنظيم "الدولة الإسلامية".
كما يمكن لهذه الوكالات أن تساعد الشعب السوري على المشاركة في عملية إعادة الإعمار من خلال منحه قروضًا صغيرة لتمكين الشركات المتخصصة في البنية التحتية من التطوّر. ومن شأن برامج مماثلة أن تستحدث فرص عمل وتساهم في تنمية المجتمع السوري من خلال المساعدة على الحد من الفقر والنزاع المسلّح والتطرّف. فضلًا عن ذلك، ستمنح الشركات الأمريكية فرصة العمل في سوريا وإنشاء شراكات عمل في المستقبل.
غير أن المساعدة الاقتصادية لن تكون فعالةً من دون دعم أمريكي لبنية المجتمع المدني التحتية. وبغية حماية سوريا بشكل أكبر من معاودة ظهور "الدولة الإسلامية" والاستفادة من الجهود التي سبق أن بذلتها الولايات المتحدة لحماية المؤسسات الديمقراطية الناشئة في المناطق الخارجة عن سيطرة نظام الأسد، يتعين على الحكومة الأمريكية أن توفر أيضًا ورش عمل تدريبية للقادة السياسيين وقادة المجتمع المدني. بهذه الطريقة، يمكن لإدارة ترامب أن تساعد من هم على الأرض لدراسة العناصر الأساسية للديمقراطية والنظام الفدرالي والانتخابات وحقوق الإنسان وإعداد دستور شامل، وأن تزوّدهم كذلك بوسائل مبتكرة لمحاربة الإرهاب.
علاوةً على ذلك، إن السوريين بأمس الحاجة إلى نظام تعليمي جديد. ويمكن لوزارة الخارجية الأمريكية المساعدة من خلال مبادرات من شأنها تزويد الطلاب السوريين بمناهج تعليمية متطورة وكتب دراسية لاستبدال المواد الحالية ذات الإيديولوجيا البعثية. وتُعتبر رعاية هذه الأدوات التعليمية إحدى أكثر الوسائل فعاليةً لمساعدة الجيل الجديد في سوريا على مواجهة التحديات الاقتصادية والمجتمعية التي تعترض بيئتهم اليوم. ومن أجل مساعدة قطاع التعليم في سوريا على الوقوف على رجليه من جديد، يجب تصميم مثل هذه المبادرات للمساعدة على بناء مدراس دمرتها الحرب والسماح لخبراء أمريكيين في مجال التعليم بالسفر إلى سوريا.
أما على صعيد التعليم العالي، فمن شأن نشر منح "فولبرايت" الطلابية في سوريا أن يساعد الطلاب السوريين الذين توقفت دراستهم بسبب الحرب والفقر والإرهاب على متابعة بعض تحصيلهم العلمي في الولايات المتحدة. ومن أجل تعزيز الجسور الثقافية بين السوريين والأمريكيين، يمكن لوزارة الخارجية أن تدعو أيضًا شباب سوريين إلى الولايات المتحدة من أجل المشاركة في برامج قيادية وتدريب إعلامي وبرامج لغة إنكليزية. ونظرًا إلى طبيعة نظام التعليم المتزعزعة حاليًا في سوريا، يمكن أن يكون لهذه الجهود تأثير هائل على آراء الطلاب السوريين حول الديمقراطية والحؤول دون رسم إيران معالم قصة بديلة.
وعلى نحو مماثل، يُعتبر دعم الولايات المتحدة لوسائل الإعلام المستقلة المتاحة في سوريا عنصرًا أساسيًا للترويج للقيم الديمقراطية وتعزيز مكانة الولايات المتحدة في البلاد. وتتحمل وسائل الإعلام الحكومية الأمريكية على غرار "مجلس محافظي البث الإذاعي" (BBG) – وهي المنظمة الجامعة التي تشرف على وكالات إعلامية مثل "شبكة الشرق الأوسط للإرسال" (MBN) و"صوت أمريكا" (VOA) - مسؤوليةً تندرج ضمن بيان مهمّتها، وهي مساعدة الصحفيين السوريين في سوريا. ومن خلال بث الأصوات السورية على الراديو والتلفزيون وغيرهما من الوسائط، يمكن لهذا الانكشاف أن يساعد في نهاية المطاف على إنشاء قطاع صحافة مستقل ومحترف في بعض الأجزاء من سوريا. كما يمكن لهذه المنظمات الأمريكية أن توظّف صحفيين سوريين طموحين كمتدربين لمساعدتهم على تطوير مهارات يمكن أن يطبقوها لاحقًا في مسيرتهم المهنية.
ونظرًا إلى الخيارات العسكرية القصيرة الأمد وخيارات القوة الناعمة الطويلة الأمد المتوافرة أمام الولايات المتحدة، لا يجب أن يعني الانسحاب العسكري من سوريا فك ارتباط كامل للولايات المتحدة من هذا البلد الذي مزّقته الحرب. فمن خلال تواجد محدود على الأرض والإعلان عن منطقة آمنة ومساعي القوة الناعمة لتعزيز التعافي الاقتصادي والاجتماعي والتعليمي، بإمكان الولايات المتحدة مواصلة تعزيز أهدافها في سوريا.
0 comments: