صفحات رأي ومقالات
نحتاج إلى تصحيح التعاليم القديمة بشأن السلام وهذا ما لا تقدّمه خطة ترامب
"أمريكان إننترست"
5 شباط/فبراير 2020
خلال شهر أيار/مايو الماضي، وبعد إجراء حوار بثته المحطات التلفزيونية الأمريكية مع كبير المستشارين في البيت الأبيض جاريد كوشنر، حذّرتُ في هذه الصفحات من أن فرص نجاح خطة السلام للشرق الأوسط التي وضعها البيت الأبيض ضئيلة وأن إقدام إدارة ترامب على إطلاقها هي خطوة غير مسؤولة. وطرحتُ قائمة طويلة من الأسباب، من بينها:
- يكون طرح "عرض مؤقت" لحل نهائي للصراع بين الإسرائيليين والفلسطينيين مجدياً فقط حين يكون الطرفان قريبين إلى حدّ ما من إبرام اتفاق محتمل وليس عندما تكون الهوة واسعة - كما هو عليه الحال حالياً - لدرجة يستحيل معها وجود حل حكيم معقول؛
- عجزت المقاربة "العقارية" التي انتهجها صهر الرئيس الأمريكي، القائمة على تقديم عرض دون التوقعات للفلسطينيين من أجل تليين موقفهم لإبرام صفقة، عن الاستئثار بالتقليد القديم للقيادة في رام الله المتمثل بالتشبث بالمواجهة والرفض؛
- يسيء اقتراح قائم على فكرة أنه يمكن للمحفزات الاقتصادية التعويض عن سمات بديهية للسيادة على غرار السيطرة على الأراضي والحدود والأمن الداخلي، قراءة قرن من التاريخ الفلسطيني؛
- تخاطر خطة لا تبدأ بمقدمة مفادها أن الطرفين لديهما تجربة متزعزعة ولكن صامدة منذ 26 عاماً من التعايش بموجب إطار عمل اتفاق أوسلو بمحو فوائد تلك العلاقة من دون أي تأكيد على بروز أخرى أفضل منها؛
- يمثل السعي إلى ما سيُعتبر عالمياً لعبة لا رابح فيها ولا خاسر - حتى ولو أثمرت على المدى القصير - مقاربة قصيرة النظر لإحلال السلام إذ سيرغم طرفيها على العيش جنباً إلى جنب إلى الأبد. وفي حين أن هذا الأمر لا يعني أنه على إسرائيل القبول بوداعة بكل ما يرغب الفلسطينيون في تحقيقه، كتبتُ ما مفاده أن "هذا يعني أن الصراع لن ينتهي أبداً فعلياً ما لم يؤمن كل طرف أن الطرف الآخر بذل جهداً حسن النية للتوفيق بين احتياجاته وبين رغبات الطرف الآخر".
وفي مقدمة كل هذه الأسباب، ما أقلقني بشكل خاص بشأن خطة ترامب للسلام هو سبب آخر مخالف للأفكار السابقة بعض الشيء - وخاصةٍ أن فشلها من شأنه تجريد أفضل الأفكار الواردة فيها من شرعيتها. صحيح، لقد تصوّرتُ أن الخطة كانت ستشمل على الأرجح بعض المفاهيم الجديرة بالثناء إلى حدّ كبير والتي يمكنها أن تكون بمثابة تصحيح مفيد للتعاليم المتقادمة للعديد من القرارات الدولية وتصريحات وزارة الخارجية غير المجدية على مرّ السنوات. لكني خشيت من أن الفشل شبه الأكيد لن يجعل الاقتراح، كما قد يعتبر واضعو الخطة ومؤيدوها، بمثابة نقطة مرجعية جديدة لمفاوضات مستقبلية فحسب، بل سيجعل حتى أفضل الأفكار التي تتناولها الخطة خلافية وتؤثر سلباً على مساعي إحلال السلام المستقبلية.
دعوني أركّز هنا على آخر قائمة من المخاوف. تضمنت الخطة الصادرة عن الرئيس الأمريكي أربع أفكار ممتازة ومبادئ تستحق أن تكون أساساً لكافة المساعي الأمريكية الرامية إلى حلّ هذا الصراع. وهي:
- تأكيد على أن مسار السلام النهائي يقوم على مفهوم الفصل بين ما سمّاه جيل قديم من راسمي الخرائط الدبلوماسيين "تقسيم" وما نطلق عليه اليوم تسمية "حل الدولتين". إن هذا الموقف هو تنصّل كبير من التسمية المغلوطة التي تدعى "حل الدولة الواحدة"، حيث يدعم النسخ المتعددة منها معادون تحريريون وحدوديون للصهيونية ومؤيدون متطرفون للصهيونية، علماً بأن أياً منها لن يؤدي إلى ما يشبه السلام. هذا تغير كبير بالنسبة للإدارة الأمريكية: ففي وقت من الأوقات، رفض الرئيس ترامب دعم فكرة "الدولتين" في حين رفض كوشنر، خلال حوارنا العلني في أيار/مايو الماضي، التلفظ بعبارة "دولة" على الإطلاق.
- إقرار بأنه يجب الاعتراف بغور الأردن، وليس بعض الحدود العشوائية الواقعة تحت مسمى "الخط الأخضر" والتي بقيت بحكم الصدفة من عمليات الانتشار في ساحة المعركة في عام 1949، على أنه الحدود الأمنية الطبيعية لإسرائيل.
- دراسة للواقع الديمغرافي بأنه لا يمكن بناء السلام على أساس الإعادة القسرية لمئات الآلاف من المستوطنين الإسرائيليين من مجتمعات في الضفة الغربية إلى داخل حدود إسرائيل ما قبل عام 1967.
- تصريح واضح بأن حل مشكلة اللاجئين الفلسطينيين يقوم على عودة اللاجئين إلى دولة فلسطين الجديدة، وليس على الحفاظ على أوهام بخصوص "حق العودة" المزعوم للاجئين إلى إسرائيل.
وتستحق مبادرة ترامب لإدراجها هذه المبادئ الأربعة ضمن الخطة تقديراً كبيراً. ولكنها لن تحظى بالكثير إذ في كل بند من بنودها، تبالغ الخطة بالمبادئ الجديرة بالثناء إلى حدّ تغييرها كلياً، مجردة إياها من الكثير من القيم العملية ومقوّضة فوائد إدراجها في الخطة في المقام الأول. وبشكل خاص:
- يتطلب حل "الدولتين" المطروح في خطة ترامب أن يتنازل الفلسطينيون عن جزء كبير من جوانب السيادة المعترف بها عموماً. حتى أنه يتخطى مسألة إنشاء دولة "منزوعة السلاح" لحرمان الفلسطينيين بشكل دائم من حقوق على غرار التحكم بعملية الدخول والخروج والأمن الداخلي. حتى أنه يمنح الإسرائيليين حق استرداد سلطات وصلاحيات ممنوحة إلى فلسطين في أي مرحلة من المستقبل. وفي حين أن العديد من الدول المستقلة تُبطل طوعاً بعض أجزاء السيادة من دساتيرها، سيصعب على المرء إيجاد العديد من الدول التي نشأت وسيادتها محدودة ويمكن الرجوع عنها إلى هذا الحدّ.
- في حين يمثل الاعتراف بأن غور الأردن أساسي من أجل أمن إسرائيل خطوة مهمة في المرحلة القادمة، إلا أنه قفزة كبيرة باتجاه تخصيص كامل المنطقة لإسرائيل باعتبارها أرضاً سيادية. إن عدد الإسرائيليين الذين يعيشون في المنطقة ضئيل؛ وكان يمكن معالجة المسائل الأمنية بدلاً من ذلك من خلال منح إسرائيل مزيجاً مبتكراً إلى حد ما من الدخول غير المقيّد والانتشار العسكري والدور الذي يخولها استخدام حق الفيتو في إدارة المعابر الحدودية. غير أن الخطة لا تسعى إلى إيجاد تسوية معقولة تلبي حاجات الأمن الإسرائيلية والمصالح الفلسطينية السياسية بل تجعل غور الأردن وكأنه انتصار مطلق لإسرائيل وهزيمة تامة لفلسطين.
- صحيح أن الواقعية الديمغرافية مرحب بها، لكن استبعاد إزالة مئات الآلاف من المستوطنات الإسرائيلية مختلف تماماً عن استبعاد إزالة واحدة حتى، كما تدعو إليه الخطة. وكانت خطة ترامب لتعتبر خطوة تاريخية لو أنها دعمت إقدام إسرائيل على ضمّ المستوطنات الواقعة غرب الحاجز الأمني للضفة الغربية، والتي تحتضن 77 في المائة من إجمالي عدد المستوطنين. لكن خطة ترامب تجعل من كل مستوطنة إسرائيلية أرضاً إسرائيلية سيادية، بما فيها 62 مستوطنة - تضمّ أكثر من 100 ألف إسرائيلي - شرق الحاجز الأمني، بعضها وسط المراكز السكانية الفلسطينية. وهي بالتالي أبعد من الواقعية الديمغرافية، بل إنها صيغة لخلاف دائم وصراع لا ينتهي.
- وبالنسبة للاجئين، لا بدّ من الإشادة باقتراح يستبعد العودة إلى إسرائيل ويضع حلاً يرتبط فقط بعودة محتملة إلى دولة فلسطين الجديدة، أو أي دولة أخرى مناسبة، أو تقاضي تعويض مالي. لكن حتى تفاصيل الخطة تحدّ القيمة العملية لهذه المبادئ. فوفقاً لبنودها، ستسيطر إسرائيل على العدد الإجمالي للاجئين الذين يمكنهم العودة إلى فلسطين وتحظر دخول اللاجئين الأفراد. علاوةً على ذلك، لا تشير الخطة إلى التعويض سوى بشكل مبهم، مما يدل على أن الفوائد المالية الحقيقة التي سيحصل عليها اللاجئون ستكون في إطار التطبيق الشامل للجزء المتعلق بالاستثمار الاقتصادي ضمن الخطة، وهو قسم لا يتضمن تفاصيل عن التمويل أو خارطة طريق للتطبيق.
ووفقاً لما كان متوقعاً، استغرق الدول العربية والإسلامية أقل من أسبوع - بما فيها أقرب شركاء إدارة ترامب في الشرق الأوسط - لرفض الخطة بعبارات واضحة وصريحة. وبالتالي، يكون البيت الأبيض قد نجح بالفعل في تأخير بروز منحى إيجابي - يقوم على ازدياد اللامبالاة الإقليمية إزاء القضية الفلسطينية - واستبداله بالدعم العربي والإسلامي الشامل للمشاعر الرافضة بشدة لقيادة فلسطينية مرهقة تفقد شرعيتها يوماً بعد يوم. وكانت الأمور قد بدأت تسير بشكل جيد بالنسبة للبيت الأبيض إذ أقنع ثلاثة سفراء عرب بحضور الحفل الذي أقامه ترامب مع رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو لإطلاق الخطة، حيث أثنى أحدهم - مبعوث الإمارات - على الاقتراح باعتباره "مبادرة جدية" و"نقطة انطلاق مهمة" للعودة إلى المفاوضات. لكن في غضون أيام، عادت الأنماط القديمة إلى الواجهة، حين أعلن اجتماع "جامعة الدول العربية" في القاهرة واجتماع "منظمة التعاون الإسلامي" في جدة عن رفض قاطع للخطة وتأييد قوي للموقف الفلسطيني التقليدي. وفي حين من المستبعد أن تؤثر أي من هذه الأحداث على عمل واشنطن المهم مع الحكومات العربية والإسلامية - أي محاربة الإرهاب والتصدي لإيران - فمن شأن سلبية مماثلة إزاء خطة ترامب أن توجه ضربة إلى أولئك الذين ظنوا أن الفلسطينيين متروكون بمفردهم لدرجة أنهم سيضطرون إلى قبول أقل مما كانوا يتمنونه. لذا فإن وصف استراتيجية التغيير هذه، إن وجدت، بأي عبارة أقل من نجاح باهر هو استهانة بها.
وفي غضون ذلك، قد يستمتع العديد من الإسرائيليين بحماسة الرئيس ترامب في تبنيه قضيتهم بهذا الشكل، إلا أنهم غير مستعدين على ما يبدو لخيبة الأمل القادمة. وبفعلهم هذا، يمزجون المد والجزر في اعتراف الولايات المتحدة برغبتهم بالسلام الفعلي مع الفلسطينيين. فقيام الرئيس بنقل السفارة الأمريكية إلى القدس، وهو قرار أمريكي-إسرائيلي ثنائي أيدته باعتباره تصحيحاً طال انتظاره لسياسة تاريخية خاطئة انتهجتها الولايات المتحدة، هو أمر منفصل عن اضطلاع الرئيس بدور الوسيط في صراع يخص آخرين وتقديمه لوجهات نظر مفصلة بشأن حله تميل كثيراً لصالح أحد طرفي الصراع، ولو كان هذا الطرف حليفاً قوياً ومقرباً.
وفي تبادل للرسائل عام 2004، أكد الرئيس جورج بوش الابن لرئيس الوزراء الإسرائيلي آنذاك أرئيل شارون أن الحكومة الأمريكية تقر بأن قسماً كبيراً من المستوطنين الإسرائيليين سيسمح لهم بالبقاء في منازلهم ومجتمعاتهم التي ستُضم إلى إسرائيل في إطار أي اتفاق سلام مستقبلي. فقد كتب بوش في هذا السياق: "في ضوء الوقائع الجديدة على الأرض، بما في ذلك المراكز السكانية الإسرائيلية الضخمة القائمة أساساً، من غير الواقعي أن نتوقع أن تكون نتيجة مفاوضات الوضع النهائي عودة كاملة ومطلقة إلى خطوط هدنة عامة 1949". وقد كان ذلك اعترافاً تاريخياً بالواقع، وبرأيي خطوة كبيرة باتجاه بناء سلام عملي. لكن بعد خمس سنوات، عندما تولى باراك أوباما سدة الرئاسة، قرر أنه ليس ملزماً بالتقيد بتعهدات سلفه الخطية فمزق الرسالة عملياً وبدأ من الصفر. ويُعتبر عدم إحراز أي تقدم باتجاه تحقيق السلام منذ ذلك الحين نتيجة ولو جزئية لذلك القرار.
وإذا كان هذا ما حدث عندما ورث رئيس جديد إعلان سياسة معتدلة نوعاً ما اعتقد أنها كبلته، فلا يجب أن نشكّك بما سيحصل عندما يرث رئيس مستقبلي من حزب آخر المواقف "الموالية لإسرائيل" الأكثر جرأة التي اقترحتها خطة ترامب للسلام. ومن شبه المؤكد أن الرئيس/الرئيسة الجديد سيرفض ما اقترحه ترامب ويضطر إما إلى الإعلان عن خطة سلام جديدة أو الاضطلاع بالدور الذي لعبه كل رئيس أمريكي منذ عهد رونالد ريغان، ألا وهو الوسيط الصادق الذي يساعد طرفي الصراع على تسوية اختلافاتهما عبر مفاوضات مباشرة. وإذا حالفنا الحظ، ستنجح الطرق القديمة لأن البديل هو على الأرجح خطة تقوم على مبادئ أقل منطقاً ووعياً من نواة الرزانة التي انتهى بها الأمر إلى ما هو أبعد من الاعتراف بها في خطة ترامب. وحتماً ستصبح الحماسة مجرد ذكرى بعيدة.
وفي النهاية لا بد من أن نقول إنه بعد مرور قرن من الصراع، يجب أن نعترف باحتمال عدم وجود مخطط متداخل للسلام بين الإسرائيليين والفلسطينيين. ومن هذا المنطلق، قد لا تكون هناك نقاط مشتركة بين ما سيقبل به الفلسطينيون وما سيعرضه الإسرائيليون. وتقليدياً، كان السبب الرئيسي لعدم إحلال السلام هو الرفض الفلسطيني، رفضهم لكل خطة تقسيم منذ عام 1937. وهذا الواقع لم يتغير، رغم أن خطة ترامب ليست اختباراً عادلاً بالفعل. ومؤخراً، شدّدت إسرائيل موقفها وذلك بسبب العبر المستخلصة من عمليات الطعن في الظهر التي عانتها خلال الانتفاضة الثانية والعبثية الناتجة عن تسامح الرئيس الأمريكي مع ميول التهليل بالنصر التي طبعت السياسة الإسرائيلية على حد سواء. والنتيجة هي أن الفجوة بين الطرفين أصبحت هوّة.
وربما، سيأتي يوم تقترب فيه مراكز ثقل السياستين الإسرائيلية والفلسطينية من بعضها البعض ويمكن لوسيط أمريكي - يكون حتماً متعاطفاً مع إسرائيل ولكنه يعبّر أيضاً عن فهم المخاوف الفلسطينية - مساعدة الطرفين على تجاوز الفجوة المتبقية. وحتى ذلك الحين، يجب أن يكون هدف السياسة الأمريكية واضحاً - مواصلة المسيرة التاريخية المتمثلة في تقليص الصراع من نزاع كبير بين العرب والإسرائيليين إلى خلاف يمكن السيطرة عليه بين شعبين يتشاركان بصعوبة قطعة الأرض الصغيرة نفسها في شرق البحر الأبيض المتوسط.
روبرت ساتلوف هو المدير التنفيذي لمعهد واشنطن. وقد تم نشر هذا المقال في الأصل على موقع "أمريكان إنترست" على الإنترنت.
0 comments: