المرصد السياسي 2880
الاضطرابات الشيعية في معقل «حزب الله» في بيروت
30 تشرين الأول/أكتوبر 2017
في 25 تشرين الأول/أكتوبر، أزالت القوى الأمنية في لبنان المحال التجارية غير المرخصة في شوارع الضاحية على الطرف الجنوبي من بيروت، التي هي المقر الرئيسي لـ «حزب الله»، مما تسبب بانطلاق موجة نادرة من السخط ضد الحزب. وقد استخدمت قوى الأمن الداخلي الجرافات لهدم الأكشاك في منطقة حي السلم، حيث كان أصحابها يبيعون القهوة والهواتف المحمولة بشكل رئيسي. ورداً على ذلك، نزل عشرات المواطنين إلى الشوارع، وأحرقوا الإطارات، وأقفلوا الطرقات، في مشهد غالباً ما يتكرر حين تتدخل سلطات الدولة في الضاحية. ولكن هذه المرة، ظهر المحتجون على شاشات التلفزيون وهم لا يشتمون الحكومة بل «حزب الله» ونصرالله، الذي حمّلوه مسؤولية خسارة مصدر رزقهم، [وما نتج عن] الحرب في سوريا. وقد خاطبت إحدى النساء نصر الله بعد أن تم تدمير متجرها الذي كان مصدر دخلها الوحيد بكلمات [باللغة العامية المحلية على غرار]، "قدمنا لك جميعاً شهداء في سوريا. لدَيّ ثلاثة أبناء أصيبوا بجروح، وهكذا تُعاملنا؟" وصرخ رجل آخر أمام الكاميرا، [وباللغة العامية المحلية أيضاً] "لتذهب سوريا إلى الجحيم، مع حسن نصر الله!"
لقد كانت هذه المحلات التجارية قائمة في الضاحية منذ عقود، وقد وفّر لها «حزب الله» الحماية من أي محاولات إزالة. ومن المعلوم في لبنان أن السلطات الأمنية الحكومية لا تدخل الضاحية مطلقاً إلا بعد التنسيق مع مسؤولي «حزب الله»، وأن الحزب غالباً ما يسمح بالأعمال غير القانونية ويخفي المجرمين. غير أنه هذه المرة، لم يكلّف نفسه عناء إبلاغ السكان المحليين بحملة إزالة المخالفات التي ستجري.
حربٌ طبقيّة تتحضر
ليس من قبيل الصدفة أن يحصل هذا التمرد الاستثنائي في أحد الأحياء الأكثر فقراً في الضاحية. وبقدر ما غيّرت الحرب السورية «حزب الله» من الناحية العسكرية ووسعت من دوره الإقليمي، فقد غيّرت أيضاً المجتمع الشيعي في لبنان وتصوراته عن الحزب. وأصبحت الانقسامات الطبقية في الضاحية أكثر حدة من أي وقت مضى - حيث توفر الأحياء الفقيرة المقاتلين في حين تستفيد أحياء الطبقتين المتوسطة -العليا والغنية من الحرب.
وفي حي السلوم، يُلاحَظ أن ملصقات "الشهداء" تغطي الجدران، وأن جنازات الشباب أصبحت حدثاً يومياً. فالحرب موجودة في كل بيت، حيث تركز التقارير الإخبارية والمناقشات على المعارك السورية والوفيات. ولكن الحرب بعيدة جداً في أحياء أخرى، ويرجع ذلك إلى حد كبير إلى أن الشيعة الأثرياء لا يرسلون أبناءهم للقتال. بل على العكس من ذلك، استفاد العديد من مسؤولي «حزب الله» من اقتصاد الحرب لتوسيع استثماراتهم المحلية. وتزدهر الآن المحلات التجارية والمطاعم والفنادق والمقاهي في مناطق الرخاء في الضاحية والجنوب.
وتساعد فجوة الثراء المتزايدة على تفسير أعمال الشغب التي وقعت الأسبوع الماضي، حيث أعرب الفقراء عن استيائهم من مسؤولي «حزب الله» الذين يعيشون في شقق فاخرة، ويقودون سيارات جديدة، ويرسلون أبناءهم إلى المدارس الخاصة والجامعات في أحياء أخرى. وفي السابق، كان يتمّ احتواء هذا الاستياء لأن «حزب الله» حافظ على دوره كحامٍ لجميع أبناء الطائفة الشيعية، سواء كانوا أغنياء أم فقراء. فلماذا قرر الحزب فجأةً التنحي جانباً والسماح للحكومة بشنّ حملة مماثلة؟
مشروع "ضاحيتي"
وفقاً لمصادر في الضاحية، لم تسمح قيادات «حزب الله» بالحملة فحسب، بل طالبت بها فعلاً. فإزالة المحال بالجرافات في حي السلم تندرج ضمن خطة أكبر تحمل اسم "ضاحيتي"، أُطلقت في أيلول/سبتمبر. وتقوم الخطة على جهود تبذلها البلديات الثلاث المسؤولة عن الضاحية لتجميلها وجعلها مكاناً أكثر راحة للسكان. وتشمل هذه المساعي إزالة شبكة فوضوية من المنشآت غير القانونية التي تسبب ازدحاماً مرورياً واكتظاظاً في بعض الأحياء.
لكن الهدف الحقيقي لـ «حزب الله» ليس الجمال أو الراحة، إذ يَعتبر عدد كبير من السكان أنّ الخطة بمثابة غطاء يستخدمه الحزب لمواجهة التحديات الرئيسية التي تواجهه في الضاحية وهي: تفشي الجريمة الصغيرة، والمخدرات، والبغاء. وقد انتشرت هذه المشاكل منذ عام 2011 في ظل الحرب في سوريا.
لقد جرّ «حزب الله» المجتمع الشيعي إلى حروب مع إسرائيل عدة مرات في الماضي، ولكن هذه الصراعات كانت قصيرة نسبياً، وعادة ما تم مكافأة الشيعة المقيمين بمبالغ مالية وافرة وخدمات بعد انتهائها. غير أن الحرب السورية مختلفة. فهي مستمرة منذ سنوات، الأمر الذي كلف «حزب الله» صورته كجماعة "مقاومة" وقدرته على توفير الخدمات الاجتماعية، بالإضافة إلى إزهاق حياة العديد من الشباب الذين لقوا حتفهم خلالها. وما أن استنزفت الأحداث التي جرت في سوريا المجاورة الحزب، لم يعد هذا الأخير قادراً على تأمين الغطاء لعصابات المخدرات ومرتكبي الجرائم الصغيرة، والبناء غير القانوني في الوطن الأم. وقد ازدادت الاشتباكات في الشارع الشيعي في الضاحية كما تعالت الشكاوى، مما أظهر أن تأمين لقمة العيش والخدمات الأساسية أكثر أهمية بكثير بالنسبة للسكان المحليين من اضطلاع «حزب الله» بدور مهيب جديد في المنطقة. وقد بدأت العائلات الميسورة بمغادرة المنطقة، متجهة جنوباً أو إلى مناطق أخرى في بيروت. ورداً على ذلك، شعر «حزب الله» بأنه مجبر على التحرك، فأطلق مشروع "ضاحيتي".
طبقة من الخوف
على الرغم من أن فورات الغضب التي اندلعت الأسبوع الماضي قد تم احتواؤها على الفور - وأولئك الذين شتّموا نصر الله اضطروا إلى الاعتذار من على شاشات الكاميرا - إلّا أن المشاكل الأكثر عمقاً ما زالت قائمة. فالذين أُرغموا على الاعتذار يشعرون حتماً بالإهانة أكثر من أي وقت مضى، وقد استندت اعتذاراتهم على الخوف، وليس على الندم. بالإضافة إلى ذلك، بينما يواجه «حزب الله» عقوبات أمريكية جديدة حالياً، يعتقد العديد من السكان الشيعة أنهم سيدفعون الثمن. فبرأيهم، إن العقوبات لن تمنع الحزب من توسيع أنشطته في المنطقة أو مواصلة عملياته في سوريا، إنما سترغمه ببساطة على فرض تدابير اقتصادية أكثر صرامةً محلياً، مما يعني أن الشيعة الأكثر فقراً سيتحملون وزرها.
كما يخشى عدد كبير من السكان المحليين من أنه في حال توقف «حزب الله» عن حمايتهم، سيصبحون عرضةً لحملات قمع إضافية تشنها السلطات الحكومية. ولا يزال البعض الآخر يخشى من أن تؤدي مكانة «حزب الله» كالكتلة الأقوى في الحكومة والمؤسسات اللبنانية إلى تعزيز احتمال شنه حملة لقمع موجة السخط بنفسه. وبالتالي، فإن الشيعة الفقراء وجدوا نفسهم في حيرة: فهم لا يريدون تقديم المزيد من الشهداء للحرب في سوريا، ولكنهم لا يريدون أيضاً أن يوصَفوا بأنهم مواطنون يتحدّون السلطات، خاصة إذا كان ذلك يخاطر بفرص حصولهم على الخدمات والنجاة من الخطر.
وبعد حادثة حي السلم، ظهرت علامات الاستفهام حول كيفية تعامل السلطات مع هذا الاستياء. ويبدو أن «حزب الله» والأحزاب المناهضة له تطرح على نفسها السؤال ذاته. فبالنسبة للحزب، تشكّل هذه المسألة أصعب التحديات التي يواجهها في الوقت الراهن. ويعتقد الحزب على ما يبدو أنه قادر على التعامل مع العقوبات الدولية والضغوط السياسية التي يمارسها أخصامه من دون تغيير مقاربته، ولكن الاستياء الداخلي ضمن المجتمع الشيعي قد يؤدي إلى انهيار قاعدة الدعم التي يحظى بها.
وفي الوقت الراهن، ربما سيستمر مشروع "ضاحيتي"، على الرغم من أن «حزب الله» قد يبحث عن طرق أقل صرامةً لتطبيقه. غير أنه لا يزال من المتوقع أن تؤدي أي تدابير من هذا النوع إلى مزيد من الاستياء والسخط، لا سيما في الأحياء الفقيرة.
العمل مع الشيعة، وليس مع «حزب الله»
لطالما جمع «حزب الله» المجتمع الشيعي حوله على أساس صيغة واضحة: "أنا حاميكم ومُعيلكم، لكن عليكم أن تعتنقوا إيديولوجيتي وتخوضوا حروبي وتنسوا أنكم مواطنون لبنانيون". وقد نجحت هذه المقاربة طوال عقود - إلى أن أصبح «حزب الله» دولةً لا تقدّم خدمات. واليوم، يدرك الشيعة الفقراء خير الإدراك أن "ضاحيتي" ليس مشروعاً معداً لهم، إنما محاولة لجعل المنطقة تستقطب المستثمرين بشكل أكبر ولا تطرح مشاكل للحزب. فالفجوة بين مسؤولي الحزب الأثرياء والجنود المشاة الفقراء "الشهداء" تتسع، مما يدفع بالناس إلى البحث عن بديل لا يمكن للحزب توفيره بعد الآن. وفي النهاية، من المرجح أن يتطوّر الوضع بإحدى اتجاهين: إما احتواء غضب الناس بالقوة واستسلام الفقراء بباسطة للقوانين الجديدة، وإما أن يؤدي استياءهم إلى المزيد من التوتر واندلاع المزيد من الاشتباكات مع الأحياء الغنية في الضاحية.
وأياً كان السيناريو الذي سيتبلور، ينتاب شيعة الضاحية الخوف من فقدان لقمة عيشهم. وأصبح الحديث عن فرص العمل، والقروض الصغيرة لفرص الاستثمار، والخدمات الأساسية يهيمن على الخطاب الدائر في شوارع الضاحية. وقد أدرك الشيعة الفقراء أن هذه الإيديولوجيا و"الانتصارات الإلهية" لا توفر لهم الطعام على الطاولة، لذلك فإن البديل الوحيد الذي يبحثون عنه اليوم هو بديل اقتصادي. وإذا لم يتمكن «حزب الله» من توفيره، فسوف يبحثون عنه في مكان آخر.
وفي هذه المرحلة، لم تعد البدائل السياسية المناهضة لـ «حزب الله» والتي يدعمها الغرب ممكنة. وبالتالي، يتعين على الحكومات الغربية الانتقال إلى استراتجية أطول أمداً تقوم على استخدام برامج اقتصادية توفر سبلاً فعلية للشيعة الخائبين لتلبية احتياجاتهم الأساسية، والعمل مع القطاع الخاص اللبناني والمنظمات الدولية مثل "البنك الدولي" و"صندوق النقد الدولي"، على أن يلي ذلك الخطابات السياسية المواتية.
حنين غدار، صحفية وباحثة لبنانية مخضرمة، وزميلة زائرة في زمالة "فريدمان" في معهد واشنطن.
0 comments: