تقارير
إسرائيل وغاز شرق المتوسط: دبلوماسية الطاقة
في منطقة تموج بالصراعات السياسية بخلفية أمنية بين إسرائيل كدولة احتلال للأراضي الفلسطينية مع جيرانها العرب، دون إمكانية تلوح في الأفق للتوصل إلى سلام، يبرز أهمية المحافظة على خط فاصل بين التأجيج والاستقرار النسبي، تعود أحد هذه الصراعات إلى ثروات طبيعية ستكون محور نفوذ سياسي وأمني عبر بوابة الاقتصاد والمال خلال العقود القادمة وواحد من مصادر الطاقة في منطقة الشرق الأوسط نحو أوروبا.
المنطقة البحرية يطلق عليها جيولوجياً اسم حوض شرق البحر الأبيض المتوسط وتطل عليها 7 دول هي مصر وسورية ولبنان وقبرص وفلسطين وتركيا وإسرائيل، تبلغ مساحتها 83 ألف كم مربع تحتوي على ما يقدره علماء الجيولوجيا والطاقة ومؤسسات متخصصة كهيئة المساحة الجيولوجية الأميركية بـ 122 تريليون قدم مكعب من الغاز الطبيعي، أعلنت الحكومة الإسرائيلية منذ عام 2009 عن اكتشافات متتالية لكميات متفاوتة من الغاز الطبيعي، كان آخرها الإعلان عن اكتشاف ما يقرب من 30 تريليون قدم مكعب غاز طبيعي ضمن حقلين يقعان في مياهها البحرية هما حقلي تمار وكاريش للغاز.
واستناداً إلى علم الجيوبوليتيك، فإن الدول التي تتمتع بسواحل بحرية ومائية، يُمكِّنُها ذلك مِن جَني مصالح تجارية واقتصادية كبرى ونفوذ سياسي أكبر، لما لها من أهمية استراتيجية عالية عبر المسارات الاقتصادية وطرق النقل البحري وأيضاً لما تشكله من مخزون في جوفها من المعادن والثروات الطبيعية، وبناءً عليه؛ فإن إسرائيل قد وجدت نفسها على كنز استراتيجي اقتصادي ربما يُمكِّنُها من الانتقال من كونها المستورد والمستهلك للغاز الطبيعي إلى المُصَدِّر له، وذلك حسب محددات سياسية واقتصادية سيتم التطرق إليها لاحقاً في المقال.
أهمية الغاز
تكمن أهمية كميات الغاز المكتشف في المياه التي تسيطر عليها إسرائيل ضمن حوض شرق المتوسط في أنها الأغنى والأهم في العالم، مما يعني أن تخطب الدول المجاورة لإسرائيل وُدَّها عبر بيعها كميات من الغاز، في ضوء ما تعيشه هذه الدول من عدم استقرار سياسي وأزمات اقتصادية كبرى كمصر والأردن ولبنان، فالأردن عام 2014 توصل مع إسرائيل عبر شركة توبل إنيرجي الأمريكية إلى صفقة يتم بموجبها تزويد عمان بـ 70 مليار قدم مكعب من الغاز الطبيعي الذي تستخرجه إسرائيل من حقل تمار الواقع في المياه الإقليمية الإسرائيلية ضمن صفقة بلغت قيمتها 771 مليون دولار.
وأما الاتفاقية الأحدث، ففي أواخر عام 2016، تم التوقيع عبر شركة نوبل انيرجي الأمريكية للطاقة على اتفاق أكبر قيمته 10 مليارات دولار لتصدير الغاز إلى الأردن من حقل ليفياتان البحري، ليبدأ التصدير الفعلي للغاز الإسرائيلي إلى الأردن في يناير 2017 حسب ما أعلنت عنه شركة ديليك الإسرائيلية في أول صادرات للغاز الطبيعي في تاريخ إسرائيل، وبقدر ما كانت الصفقة اقتصادية بحتة بالنسبة لإسرائيل بقدر ما تهدف إلى التعاون والاستقرار السياسي لإسرائيل مع جيرانها واعتمادهم عليها في تزويدهم بالطاقة لمدة 15 عاماً، وبالتالي ارتبطت عمان بتوفير احتياجاتها من تل أبيب على الرغم من استمرار الرفض من الشارع الأردني مما يعتبره الأردنيون غاز الفلسطينيين “المسروق” اسرائيلياً، في الوقت الذي أدرجت الحكومة الأردنية اتفاقية الغاز ضمن الوثائق السرية.
وهكذا، فإن إسرائيل هي المستفيد الأكبر من الغاز الطبيعي المكتشف في حوض شرق المتوسط سواءً مُصَدِّرَة له أو مُستوردة، إذ يقع ضمن مياهها الإقليمية أكثر من 9 حقول غاز طبيعي غير متنازع عليها، منها:
- حقل “تمار” بمخزون احتياطي نحو 10 تريليون قدم مكعب
- حقل “كاريش”.
- حقل “نوح” مقابل شواطي غزة.
- حقل “مارين” على مسافة 36 كم من شواطئ قطاع غزة، بمخزون احتياطي يُقدَّر بتريليون قدم مكعب.
- حقل “تامر” على بعد 80 كيلومتراً من مدينة حيفا.
- حقل “ليفياثان” على بُعد 135 كم من شواطئ شمال مدينة حيفا بمخزون احتياطي نحو 17 تريليون قدم مكعب.
- حقل “داليت” الواقع على مساقة 60 كيلومتراً تقريبًا عن مدينة الخضيرة.
- حقل “أفروديت” على بعد 180 كم من الشاطئ الجنوبي الغربي لقبرص، بإجمالي مخزون احتياطي يقرب من 9 تريليون قدم مكعب.
- حقل “تانين” بمخزون احتياطي من الغاز يبلغ 1.2 تريليون قدم مكعب.
- حقل “ليفاثان” ويصل المخزون الاحتياطي المتوقع إلى نحو 17 تريليون قدم مكعب، ويقع الحقل على مسافة 135 كم من شواطئ شمال مدينة حيفا، وغيرها من حقول الغاز .
ليس هذا فقط الذي تمتلكه إسرائيل، فقد حصلت على كميات ضخمة من الغاز المصري كان آخرها إعلان رئيس حكومة الاحتلال الإسرائيلي بنيامين نتنياهو في فبراير الماضي بعقد اتفاق مع مصرلبيع الأخيرة 65 مليار متر مكعب من الغاز لمدة 10 أعوام بقيمة بلغت 15 مليار دولار، الصفقة وصفها نتنياهو بالقول “إنه يوم عيد في إسرائيل”، مضيفاً في تصريح مكتوب: إن “الاتفاقية تاريخيةوستُدخِل المليارات إلى الخزينة الإسرائيلية، وستُصرَف لاحقاً على التعليم والخدمات الصحية والرفاهية لمصلحة المواطنين الإسرائيليين”.
يرى خبراء الاقتصاد أن الصفقة تُعَد ضربة إسرائيلية لمصر في عمقها الاقتصادي المتدهور منذ سنوات، إذ كانت منذ فترة قليلة تُصدِّر الغاز المستخرج من أراضيها إلى إسرائيل عبر خطوط الأنابيب، لتصبح اليوم مستوردة له وعبر الأنابيب ذاتها التي كلَّفت المُستثمرين 500 مليون دولاربحسب صحيفة لوفيغارو الفرنسية، كما أنَّه سياسياً يُعدُّ رهناً للقرار السياسي المصري للضغط على القاهرة للاستجابة للإملاءات الإسرائيلية مستقبلاً في ظل عدم الاستقرار السياسي والاقتصادي والأمني وحاجتها إلى الغاز والكهرباء وموارد الطاقة الأخرى.
السياسة والطاقة
النشوة الإسرائيلية عبَّر عنها أيضاُ وزير الطاقة الإسرائيلي يوفال شتاينتز بالقول: “هذه هي المرة الأولى منذ توقيع معاهدات السلام في الشرق الأوسط التي تُوقع فيها مثل هذه الاتفاقات الكبيرة ومن المتوقع أن تقوي العلاقات الثنائية بين البلدين، كما أنها –الاتفاقية- ستعزز مكانة إسرائيل كفاعل مركزي في المنطقة في سوق الطاقة ” ، كما رحبت أوساط اقتصادية في إسرائيل بالصفقة وتبعاتها حيث ستسهل مزيداً من التعاون والعلاقات الإسرائيلية مع الدول العربية لا سيما الخليجية، والتوصل لصفقات اقتصادية ضخمة مع إسرائيل . بمعنى آخر فإن انتقال إسرائيل من كونها تعتمد على العالم الخارجي في تأمين احتياجاتها من الطاقة إلى مصدر مُؤمِّن لها واعتماد الآخرين عليها، في أنها أصبحت قوة ذات نفوذ اقتصادي وليس فقط عسكري متفوق في المنطقة، كما أنها تفتح الباب واسعاً أمامها لهجرات التطبيع العربية الرسمية وغير الرسمية إليها عبر بوابة الطاقة.
كما أن امتلاك إسرائيل للغاز الطبيعي سيفتح الباب أمامها لمزيد من الصناعات الأخرى كتوليد الكهرباء وغيرها لتصديرها إلى العالم الخارجي مما يعني مزيداً من احتكارها لسلع أساسية ضرورية تعتمد عليها الدول والمجتمعات وبالتالي مزيداً من التوسع إلى اللا حدود.
لكن أين ستذهب إسرائيل بالغاز؟
في ظل انشغالات دول المنطقة المُشتَرِكَة في السواحل المطلة على حوض شرق المتوسط، وبالتحديد سوريا وقبرص واليونان ولبنان والسلطة الفلسطينية، يبدو أن إسرائيل ستلعب في ميدان الغاز لوحدها بالسيطرة على المزيد من حقول الغاز في حوض شرق المتوسط، ولكن في ظل وفرة الإنتاج لديها فإنها بلا شك ستواجه عقبات وتهديدات أمام استكمال عمليات التصدير، وذلك يعود إلى أسباب جيوسياسية وأمنية سياسية:
تكمن العقبة الأولى جيوسياسياً في عدم ترسيم الحدود بين لبنان وإسرائيل، حيث من ضمن الخلافات بلوك رقم 9 البحري المتنازع عليه بين البلدين، إذ تدعي إسرائيل أحقيتها به ووقوعه ضمن مياهها الإقليمية، حتى بعد المقترح الأمريكي عام 2012 بتقسيم بلوك 9 المتنازع عليه والبالغ مساحةً 860 كم مربع بنسبة الثلثين للبنان والثلث لإسرائيل.
أما العقبة الثانية فتكمن كما وصفتها صحيفة لوفيغارو الفرنسية إلى ضرورة بحث إسرائيل وشركائها في قطاع الطاقة العثور على أسواق خارجية لتسويق هذا الغاز المستخرج والتي تُعوِّلُ عليه كثيراً في رفد ميزانيتها بأموال ضخمة، حيث أن حصر الارتباط الإسرائيلي بمستوردين اثنين هما مصر والأردن، ليس ذو جدوى كبيرة، فاستهلاك أسواق الأردن والأراضي الفلسطينيّة لا يزيد على 5 بلايين قدم مُكعّب من الغاز سنويّاً، وهي نسبة ضئيلة مقارنة بحجم الاحتياطيّات الإسرائيليّة، لذا، فقد بدأت إسرائيل مفاوضات من أجل إنشاء خط أنابيب غاز يحمل اسم EastMed يمكنه الربط ما بين إسرائيل واليونان وقبرص في خطة لتقليل اعتماد أوروبا على الغاز الروسي ولتكون بديلة عنه لقربها الجغرافي من القارة الأوروبية ذات الاحتياجات الكبيرة من الغاز .
وتأتي العقبة الثالثة المتمثلة في التهديد الأمني لإسرائيل بشكل مزدوح من كلٍّ من حركة حماس وحزب الله اللبناني، فالأخير يمتلك منظومة صواريخ بر بحر من طراز “ياخونت” الروسية الصنع، حسب ما صرَّح به الرئيس السابق لشعبة الاستخبارات العسكرية في الجيش الاسرائيلي، والرئيس الحالي لمعهد أبحاث الأمن القومي، اللواء عاموس يدلين، بجانب امتلاك حزب الله التكنولوجيا الإيرانية المتطورة والدقيقة القادرة على ضرب منصات استخراج الغاز في عرض البحر، وفي حال تم هذا الاستهداف فإن المنصات ستخرج عن العمل بالتأكيد وهو ما هدد به حزب الله إسرائيل مؤخراً.
التهديد الصادر عن حزب الله لمنصات التنقيب عن الغاز الإسرائيلية في حوض شرق المتوسط
بالإضافة إلى حالة عدم الاستقرار السياسي والأمني على الجهة الجنوبية لإسرائيل في قطاع غزة بفعل الحصار المستمر عليه اسرائيلياً وعربياً منذ 12 عاماً، واستمرار تدهور الأوضاع إلى الأسوء دون أي آفاق للتوصل إلى هدنة مؤقتة، وتوقعات إسرائيلية بأن اندلاع حرب مع حماس مسألة وقت فقط، في الوقت الذي تعترف فيه جهات إسرائيلية بأن قوة حماس العسكرية ليست كالسابق، وقدرة صواريخها على الوصول إلى السواحل الإسرائيلية وبخاصة في حيفا، بالإضافة إلى التخوف الإسرائيلي من الضفادع البشرية التابعة لكتائب القسام من الوصول إلى الأرصفة البحرية وتفجيرها.
خاتمة
في ظل ما سبق من امتلاك إسرائيل ثروات كبيرة من الغاز الطبيعي، وفي ظل الأوضاع الأمنية التي تشكل تهديداً مباشراً وكبيراً على كيانها، بات عليها ليس فقط البحث عن آليات وطرق للمحافظة على سلامة ثرواتها، بل في وسائل استثمارها وتصديرها إلى الأسواق الأوروبية الأضخم استهلاكاً للطاقة والغاز، إذ تشير التقديرات أن الغاز الإسرائيلي المكتشف يكفي حاجة أوروبا لثلاثين عاماً، فليست أسواق مصر والأردن بكافية لاستيعابها، الأمر الذي سيعزِّز ميزانها المالي بمليارات الدولارات لسنوات قادمة، ولربما أن الغاز في شرق المتوسط لن يتسبب في اشتعال فتيل الحرب، لكنه لن يجلب استقراراً أو سلاماً منتظراً وبخاصة مع الدول التي تطل على شرق البحر الأبيض المتوسط، ما لم يتم التوصل إلى صيغة متوافق عليها من قبل الجميع، وهو الأمر المستبعد لأسباب متعددة *
0 comments: