جيش صغير وذكي
بقلم: عمير ربابورات
أخطأت استخبارات الجيش ثانية: فقد ساد تقدير في قيادة الجيش أن الحكومة ستقرر تخفيض ملياري شيكل كل عام من ميزانيتي 2013 و2014. ولكن القرار كان تقليص 1.5 مليار العام 2013 (مقارنة بميزانية العام 2012 التي بلغت 54 مليار شيكل) وثلاثة مليارات العام 2014 أي أعلى بقليل من التكهنات. وسيجبر التقليص الجيش الإسرائيلي على العيش سنة ونصف قاسيتين جدا: إلغاء قسم من التدريبات، مناورات فرق ستغدو مناورات قادة فقط، عدة مشاريع في الأذرع المختلفة ستلغى، أو ستقلص.
وفي نهاية المطاف سيعيش الجيش على تقليصات. وكان هم وزير الدفاع ورئيس الأركان ورئيس شعبة التخطيط هذا الأسبوع الخطة المتعددة السنوات للجيش، المسماة «عوز»، والتي صادقت الحكومة عليها رسمياً. والخطة ستقرر كيف سيبدو الجيش الإسرائيلي في نهاية العقد، وهي تعني دبابات أقل وحرباً سايبرية أكثر، لكن هذا جزء من الصورة.
ولإسرائيل خاصة، نالت خطة «عوز» مصادقة رسمية هذا الأسبوع، بعد أكثر من نصف عام على تدشينها عمليا. ولفهم كيف حدث ذلك يجب العودة إلى آب 2011 حين اجتمع جنرالات الجيش لبلورة الخطة المتعددة السنوات المسماة «حلميش»، والتي كانت ستحل مكان خطة «تيفن»، التي انتهت ذلك العام. ولسوء الحظ، بالضبط في ذلك الوقت، تعاظم الاحتجاج الشعبي في الشارع. وأعلن رئيس الحكومة عن تقليص ثلاثة مليارات شيكل في ميزانية الدفاع (تقليص بقي على الورق). وجمدت النقاشات حول الخطة المتعددة السنوات.
وخلال العام 2012 بلور الجيش خطة «عوز» المفترض سريانها للسنوات 2013-2017، غير أنه تقرر حينها تقديم موعد الانتخابات، ولم يصادق على الخطة. وهنا بدأت الألاعيب: نائب رئيس الأركان في حينه الجنرال يائير نافيه، اتفق مع رؤساء الصناعات الأمنية الإسرائيلية على مشاريع بعشرات مليارات الشواقل، بحيث يسدد ثمنها في النصف الثاني من العقد، ابتداء من العام 2016. وكان للجيش مصلحة في تنفيذ هذه المشاريع، وأيضا مصلحة للصناعات: طلبيات بعيدة المدى تسمح باستغلال أقصى للموارد البشرية، وتضمن عملا لمدى بعيد. أما وزارة المالية فخرجت علنا ضد ميزانية الدفاع، لكنها عمليا منحت رصيداً لإبرام المشاريع الهائلة. واتفق على أنه إذا لم تصادق الحكومة لاحقا على بعض المشاريع يمكن لوزارة الدفاع التراجع عنها، بدفع غرامة ضئيلة نسبيا.
لا يشمل الشاباك
ميزانية الدفاع ليست الأكبر في ميزانيات الحكومة بل الأعقد أيضا. فهي الوحيدة بين ميزانيات الحكومة التي يصادق عليها كـ«إطار»، أي يصادق الوزراء عليها بالإجمال، وليس على كل بند كما في ميزانية الوزارات الأخرى. وبالمناسبة لا تشمل ميزانية الدفاع كل النفقات الأمنية الفعلية لإسرائيل. فميزانية الشابك والموساد والمقدرة بعدة مليارات كل عام، يصادق عليها منفصلة، بصورة سرية تماما. وهناك نفقات أمنية غير ذلك.
وحسب قرار الحكومة هذا الأسبوع، فإن ميزانية 2014 ستكون الميزانية الأضعف للمؤسسة الأمنية في هذا العقد، وستكتفي وزارة الدفاع بـ51 مليار شيكل، لكن الميزانية ستزداد تدريجيا: 52 مليارا 2015 و55 مليارا 2016 و57 مليارا 2017 و59 مليارا 2018. ويدفع دافع الضريبة الأميركي سنويا حوالي 12 مليار شيكل لميزانية الدفاع الإسرائيلي كل عام. ومشكلة هذه المعونة أن جزءاً منها لا يمكن استخدامه إلا لشراء معدات من أميركا (تستغل إسرائيل المساعدة لشراء الطائرات، الذخائر وأسلحة متطورة أخرى). النقص الحقيقي في الميزانية هو بالشيكل.
ولتحريك الجيش كل صباح، أي دفع رواتب الجند وتوفير مأكلهم ووقودهم، هناك حاجة لـ22 مليار شيكل سنويا. وتدفع وزارة الدفاع أكثر من عشرة مليارات شيكل كالتزامات سابقة (أموال تقاعد لجنود الخدمة الدائمة ومصابي الجيش والعائلات الثكلى)، بحيث إن قسم الميزانية الممكن المناورة به هو حوالي عشرة في المئة من الميزانية بالشيكل لا أكثر.
ورغم ذلك، توظف المؤسسة الأمنية كل عام 4.5 مليارات شيكل في الأبحاث والتطوير (قرر يعلون عدم تقليص هذا الجزء) ولدى الجيش مئات المشاريع التي تبلغ تكلفتها في السنوات الخمس المقبلة عشرات مليارات الشواقل، بما في ذلك المشتريات من أميركا.
وتدير المؤسسة الأمنية هذه المشاريع بثلاث سلال ميزانية أساسية: الأكبر تديرها دائرة في وزارة الدفاع (مثل دائرة «حوما» للدفاع ضد الصواريخ، أو دائرة الفضاء والأقمار الصناعية)، والجيش نفسه يدير من ميزانية مركزية التزود بأسلحة باهظة (مثل شراء الطائرات والغواصات)، وعدا ذلك كل ذراع ينال ميزانية لتعاظم قوته لاستخدامها وفق تقديره (في الذراع البرية مثلا يتوقون منذ سنوات للتزود بصواريخ دقيقة بعيدة المدى أو بمدفع متحرك حديث، لكن هذه مشاريع تخضع للمراجعة جراء التقليصات).
مخاطر متوقعة
وتبدأ عملية بناء الخطة المتعددة السنوات للجيش الإسرائيلي غالبا بتحديد المخاطر المرتقبة: احتمالات أن يجد الجيش الإسرائيلي نفسه في جبهة معينة أو عدة جبهات بالتزامن. وقد طرأ تغيير دراماتيكي منذ بدأ الجيش العمل على خطة «حلميش» التي لم تنفذ (بدأت الخطة قبل سقوط مبارك) وحتى التغييرات الجارية اليوم (كان الجيش السوري خطرا مركزيا في خطة «عوز» ولكنه يتفكك بوتيرة مذهلة).
عموما، تعتبر المنطقة غير مستقرة، والجيش ملزم بإعداد نفسه لتشكيلة واسعة من المواجهات، ابتداء من حرب شاملة ضد إيران إلى مواجهة عناصر الجهاد العالمي على حدود مصر أو سوريا. والخطر المركزي حاليا هو الصواريخ نحو إسرائيل. والجمهور يعيش وهم أن «القبة الحديدية» توفر حماية جوهرية مثلما في القتال ضد حماس في عملية «عمود السحاب»، ولكن في حرب ضد حزب الله، سوريا وإيران، المسلحة بعشرات ألوف الصواريخ، يمكن لهذه المنظومة أن تحمي فقط منشآت استراتيجية وقواعد سلاح الجو في أحسن الحالات.
وقبل أسبوعين نسبت لإسرائيل غارة في سوريا على صواريخ فاتح 110 كانت معدة لحزب الله لكن نصر الله يملك صواريخ ,M-600 الموجهة بنظام جي بي إس. وإذا ضربت محطة الطاقة في الخضيرة فإن شبكة الكهرباء في الدولة ستتضرر من دون الحديث عن أن خطر الصواريخ يمكن أن يشوش للمرة الأولى في تاريخ إسرائيل حركة الطيران في مطار اللد (هناك خطة بديلة في حال إغلاق المطار طويلا).
وداعا للدبابة
كانت المرة الأخيرة التي مر فيها الجيش الإسرائيلي بتغيير مثير في حجم قواته في ثمانينيات القرن الفائت. وبعد التوقيع على معاهدة السلام مع مصر أغلقت وحدات ميدانية كثيرة، كانت معدة للقتال في الجبهة الجنوبية. وفي مطلع العقد الفائت أغلقت عدة فرق مدرعة. وتخاطر خطة «عوز» بشكل مدروس، ورغم الخشية من انهيار اتفاقيات السلام مع مصر في السنوات المقبلة، فإن الجيش لن يكبر من جديد. بالعكس، سيتقلص أكثر.
وثمة أصوات غير قليلة في الجيش في السنوات الأخيرة تدعو لثورة: تقليص مثير في نفقات القوات البرية في ضوء تغير الخطر، وواقع عدم وجود أي جيش نظامي يقف على حدودنا. خطة «عوز» بعيدة عن أن تكون ثورية بهذا الشكل، لكنها تذهب نحو هذه الأصوات. والجيش الذي كان قد قلص كمية دباباته ومدرعاته في العقد الماضي، سيواصل إغلاق وحدات (يمكن الافتراض أنه سيرسل الدبابات القديمة للمتحف أو يبيعها لدول العالم الثالث أو كخردة). والجيش الإسرائيلي سيحتفظ بقدرة مناورة أساسية، لكنه سيقلص وتيرة إنتاج دبابات ميركافا ومدرعات ميركافا (النمر) بحيث يخرج للتقاعد المركبات القديمة.
وتطلب الأمر من الجيش في خطة «عوز» إجراء توازن بين قدرتي الدفاع والهجوم. فالتزود بمقومات الدفاع الفعال، بطاريات «القبة الحديدية»، «عصا الساحر»، «حيتس 2» و«حيتس 3» يكلف مليارات كثيرة، لكن الجيش لن يتسلح على ما يبدو بأكثر من تسع بطاريات «قبة حديدية» رغم أن وزير الدفاع السابق خطط لعشرات البطاريات. وتحسين المنظومة سيطيل في المدى الفعال لكل بطارية وسيوفر عدة بطاريات مكلفة.
وسيركز الجيش على الذخائر الدقيقة: برا وبحرا وجوا. فسلاح الجو سيستهلك معظم أموال المساعدة الأميركية لشراء الأسراب الأولى من طائرات F-35المتملصة والتي ستبدأ في الوصول العام 2016. وحتى نهاية الخطة سيتم شراء سرب آخر. وسيتزود الجيش في السنوات الخمس المقبلة أيضا بالطائرة المروحية وطائرات الوقود . قسم كبير من ميزانية التسلح المركزي بالشيكل، ستخصص لشراء ثلاث غواصات «دولفين» حديثة ستصل في السنوات الخمس المقبلة. وتكلفة كل غواصة هي نصف مليار يورو، ورغم تمويل الحكومة الألمانية لثلث التكلفة، فإن هذه مبالغ طائلة. وتسلح إسرائيل بالسفن ووسائل حماية مكامن الغاز في المياه الاقتصادية، سيتم من ميزانية خاصة خارج ميزانية الدفاع. في العام المقبل سيصل هذا التمويل إلى عدة عشرات من ملايين الشواقل، وقد يصل لاحقا إلى مليار شيكل سنويا.
الاستخبارات أولا
إجمالا، كما في خطط التسلح السابقة، ستمنح هذه المرة أيضا أفضلية مطلقة للاستخبارات ولسلاح الجو. ولا يدخر الجيش الإسرائيلي في التسليح الاستخباري للجيش أي شيكل. وهو يستثمر أموالا طائلة في المنظومات التي ستحلل المعلومات الهائلة التي تصل من مجسات لا عدد لها نشرت في السنوات السابقة، ونقلها إلى المستويات التكتيكية ميدانيا. وسيحسن الجيش في السنوات المقبلة قدرته في حرب الشبكات وحرب الاستخبارات وسيصل إلى مستوى لم يبلغه أي جيش في العالم وهو القدرة على مهاجمة كل هدف بدقة متر عبر الضغط على زر الهدف الذي يظهر على شاشة حاسوب محمول (الأمر يتعلق بمشروع يسمح بإغلاق دائرة النار خلال ثوان).
وكدرس من حرب لبنان الثانية، سيواصل الجيش في السنوات الخمس المقبلة توظيف أموال طائلة في أنواع مختلفة من الدفاع عن القوات المحاربة في الميدان، بينها الدفاع الفعال عن المركبات المدرعة، ولكن المجال الأشد تطوراً سيكون بعيداً عن ميدان المعركة التقليدي، إذ سيستثمر الجيش أموالا طائلة في الحرب السايبرية، دفاعاً وهجوماً.
وستقلص خطة التسلح القريبة قوام القوات الدائمة بحوالي 3000 وظيفة. وعلى الورق إذا نفذت خطة «عوز» بكاملها فإن الجيش الإسرائيلي في العام 2018 سيكون جيشاً أصغر ومسلحاً أكثر بأسلحة دقيقة. الأيام ستقول إن كان هذا سيحدث أم لا.
المصدر:
- معاري
0 comments: