Sunday, February 16, 2020

فن اللاحكم... كيف أفلتَ حكام لبنان طويلاً من عواقب فعل القليل جداً؟


فن اللاحكم... كيف أفلتَ حكام لبنان طويلاً من عواقب فعل القليل جداً؟



الخميس 13 فبراير 202003:38 م
قد يكون النطاق الجغرافي الميزة التي لم يسبق لها مثيل في تظاهرات لبنان المستمرة. فمن صور وصيدا في الجنوب إلى طرابلس في الشمال وبعلبك في الشرق، التأم اللبنانيون في حركة امتزجت فيها المظالم المحلية بحنق وحّد الجميع ضد النخب السياسية التي تُبقي النظام متماسكاً. يكمن هذا التداخل بين السياسة المركزية والمحلية في صلب النظام السياسي اللبناني المتداعي، ويساعد في تفسير أحد أبرز ألغاز الدولة: دولة تكاد لا تقدّم شيئاً لمواطنيها الذين، رغم ذلك، أعادوا انتخاب ذات السياسيين مراراً وتكراراً.
منذ أن نالت الدولة اللبنانية استقلالها في عام 1943 وهي موجودة فقط بالحد الأدنى على نحو يدعو للدهشة، فقد فشلت في تقديم مستويات مُرضية من الرعاية الاجتماعية والخدمات العامة. يحتل البلد، وفقاً لشركة الاستشارات ماكينزي، المرتبة 113 من أصل 137 بلداً من حيث جودة البنية التحتية، ويُصنَّف تأمينه للكهرباء كرابع أسوأ بلد في العالم وفقاً لمؤشر التنافسية العالمية للمنتدى الاقتصادي العالمي. أما مدارسه العامة ومستشفياته فيتجنبها جميع اللبنانيين القادرين على تحمل تكاليف هذا التجنب والكثيرون ممن يعجزون عن ذلك. وهكذا تتربع الطبقة السياسية اللبنانية على عرش نظام يخدم غالباً مصالحها الخاصة ويقدّم القليل جداً من الخدمات العامة، فكيف كانت هذه الطبقة ماهرة في فعل القليل جداً ولفترة طويلة جداً؟



يتطلب تفسير هذه المفارقة إشاحة النظر عن السياسة في بيروت، والتمحيص بدلاً من ذلك في باقي المناطق اللبنانية. إن جميع السياسيين اللبنانيين تقريباً يستمدون قاعدتهم الاجتماعية وسلطتهم الانتخابية من المراكز الحضرية الأصغر والقرى المجاورة لها، رغم أن معظمهم يقيمون في العاصمة وفيها يتشاجرون. ولكي تحافظ هذه النخب المقيمة في بيروت على تفوقها في تلك المناطق، قامت بتنشئة مجموعة متنوعة من وسطاء يقومون بتوزيع خدمات وفق نظام المحاباة وحشد الدعم الانتخابي واستباق أية معارضة محتملة. وهكذا ظلّ مصير الطبقة الحاكمة السياسي في أيدي سماسرة السلطة المحليين، ممثّلين بأعيان العائلات البارزة، ورجال الأعمال والتكنوقراط المتعلمين، ورجال الحي الأقوياء.
تم إضفاء الصبغة المؤسساتية على هذه العلاقة التكافلية في شكل بلديات في جميع أنحاء لبنان، والبلديات هي مجالس محلية يتراوح عدد طاقمها بين 9 و24 عضواً منتخباً، وذلك وفقاً لحجم المنطقة. لقد جعلتها واجباتها اليومية - من قبيل إصلاح الطرق، وجمع القمامة، وإنارة الطرقات - على صلة مباشرة بعامة اللبنانيين، وبالتالي كانت هذه المجالس ضرورية لردم الهوة بين النخب الوطنية وناخبيها. عملت هذه الهيئات، تاريخياً، على مدّ نفوذ الدولة وخدماتها إلى المناطق النائية. لكنها وخلال العقود الأخيرة راحت تفعل العكس: فهي تساعد الأحزاب الحاكمة على التقليل التدريجي للخدمات التي تقدمها لناخبيها المفترضين.

بناء الدولة وهدمها

تم إنشاء أولى البلديات في لبنان كأداة لتوسعة نفوذ الدولة العثمانية التي هزتها موجة اضطرابات عمّت جبل لبنان في أربعينيات القرن التاسع عشر. أنشأ الحكام العثمانيون أول بلدية منتخبة في دير القمر عام 1864، وسرعان ما فعلوا الأمر ذاته في كلٍّ من بيروت وصيدا وطرابلس. في عصر ما قبل السيارات وأنظمة الصرف الصحي الحديثة، اقتصرت وظيفة هذه المجالس على حلّ النزاعات وإرسال المعلومات إلى المسؤولين العثمانيين.
ربَط الدولة العثمانية بتلك المجالس التي كانت تدور في كنفها اتفاق فضفاض وقوي في آن معاً، فقد مدّت السلطات المركزية القادة المحليين بأموال يمكنهم إعادة توزيعها على الناخبين ليعززوا شعبيتهم. في مقابل ذلك، قام أولئك الأعيان بقمع الاحتجاجات كلما دعت الضرورة إلى ذلك. إبّان الانتداب الفرنسي (1923-1943)، استغلّ الحكام الفرنسيون المستعمرون للبلاد هذا النظام ووسعوه، وكذلك فعلت الحكومة الوطنية بعد الاستقلال. وهكذا دخلت النخب المحلية في كنف فكرة الدولة اللبنانية القومية بعد أن كانت منفصلة عنها. لقد ساعدت تلك الاستمالة، مع ازدياد عدد المجالس البلدية ومسؤولياتها، على تحويل جهاز الدولة من فكرة مجردة إلى واقع ملموس.
غير أن عملية الترسيخ تلك ما لبثت أن توقفت. فبعد انتخابات عام 1963، تم تأجيل الانتخابات المحلية مراراً وتكراراً، أولاً وسط التوترات الإقليمية في أعقاب الحرب العربية-الإسرائيلية عام 1967، ومن ثمّ بسبب اندلاع الحرب الأهلية في عام 1975. في العام 1977، سمح توقفٌ وجيز في القتال للزعماء الوطنيين بالبدء في التخطيط لإعادة الإعمار واستعادة سلطتهم وجاههم. صوّت البرلمان لصالح توسيع نطاق سلطة البلديات إلى حدّ كبير لتشمل إدارة أعمال النظافة وإصلاح الطرق وصيانة المرافق العامة. وعندما استعرت الحرب بعد ذلك بفترة وجيزة، وجدت الحكومات المحلية نفسها قوية على الورق، لكنها غير مرتبطة البتة بالحكومة المركزية التي فقدت كلّ شكل من أشكال السيادة.
وجدت الحكومات المحلية في لبنان نفسها قوية فقط على الورق.
في تلك الأثناء وَجدَ مسؤولو البلديات أنفسهم أمام مجموعة كارثية من الظروف. لقد غدا ناخبوهم أكثر فاقة من أيّ وقت مضى بسبب استمرار العنف والتدهور الاقتصادي وانهيار الخدمات العامة. غير أن البلديات كانت تفتقر إلى الموارد المالية والكفاءة الإدارية للاستجابة، كما كانت ولايتها آخذة في الضعف. فحلّ بدلاءٌ غير منتخبين، في كل مكان، محلّ كثيرٍ من أعضاء المجلس الذين إما ماتوا أو هاجروا، وأشرف رؤساء المحافظات أو المقاطعات، ولو شكلاً، على ما تبقى من تلك المجالس في كثير من الحالات.
في الوقت ذاته، كانت هنالك طبقة سياسية جديدة في طور التشكل، تضم مزيجاً من زعماء الميليشيات ورجال الأعمال الأثرياء. وقد عززت كلا المجموعتين من نفوذهما من خلال احتلال مكان النخب المحلية العريقة. أحد أبرز الأمثلة على هذا الاستيلاء ما حدث في مدينة صيدا الساحلية الجنوبية، حيث قام قُطب البناء رفيق الحريري بنسف التوازن السياسي الذي بُني على هيمنة عائلة البزري التي استمرت عقوداً من الزمن. وكانت هذه العائلة قد استثمرت نفوذها في فرض سيطرتها محلياً كما دخلت معترك السياسة الوطنية، فقد فاز نزيه البزري، الذي انتخب رئيساً لبلدية مدينة صيدا في عام 1952، بمقعد برلماني في العام التالي، وظل يشغله بشكل متقطع طيلة ما يقرب من أربعة عقود.
يحتل لبنان مرتبة متأخرة جداً من حيث جودة البنية التحتية، وهو رابع أسوأ بلد عالمياً في تأمين الكهرباء، وتتربع الطبقة السياسية فيه على عرش نظام يخدم غالباً مصالحها الخاصة ويقدّم القليل جداً من الخدمات العامة، فكيف كانت هذه الطبقة ماهرة في فعل القليل ولفترة طويلة جداً؟
بيد أن الحرب الأهلية حرمت تلك العائلة من الوصول إلى موارد الحكومة المركزية، ما أدى إلى إفلاس المجلس البلدي الذي أضحى عاجزاً عن أداء حتى الوظائف الأساسية. وما زاد الطين بلة ذاك الضرر الكبير الذي لحق بمدينة صيدا جرّاء الغزو الإسرائيلي عام 1982. فبعد أيام من القصف، خرج السكان من منازلهم ليجدوا الطرق مدمرة، وخطوط الكهرباء معطلة، ومبنى البلدية محروقاً. ونظراً لقلة الدعم المقدم من بيروت، طلب رئيس بلدية صيدا حينئذ، وهو مطور عقاري سابق يدعى أحمد كلش، المساعدة من الحريري، أحد معارفه الأثرياء، فوَعدَه الأخير بمنحة تزيد عن مليون دولار من أجل إعادة الإعمار بحلول نهاية الأسبوع، ويتذكر أحد أعضاء المجلس البلدي الذين عملوا في ذلك الوقت الأمر بقوله: "لقد مثّل ذلك فجر عهد الحريري".
ثم راح الحريري يموّل إصلاح الطرق وإنارة الشوارع واستعادة خدمات الصرف الصحي. كما أعاد تفعيل السوق المحلية ووظّف خبراء رسموا ملامح مبادرة تهدف إلى إعادة تخطيط المدينة. خلال هذه العملية، أنشأ الحريري المجلس الأعلى للمشاريع البلدية، وهي مؤسسة محلية أعاد تسميتها باسم "مؤسسة الحريري" إبان الحرب. وبدلاً من السعي للحصول على موافقات البلدية وتمويلها، تكفل الحريري بنفقات مشاريعه، وأوكل تنفيذها إلى موظفيه، ثم سلّم النتائج النهائية إلى البلدية لإدارتها لاحقاً.
سرعان ما خيّمت حكومة الظل تلك على الحياة السياسية في صيدا، وراح الضعف ينخر شبكات آل البزري، حالها في ذلك حال كثير من الشبكات الأخرى. كما تدخّل الحريري لتمويل مركز ثقافي تكريماً لشهيد من عائلة منافسة من صيدا، وهو السياسي معروف سعد الذي اغتيل عام 1975. قال أحد مستشاري مجلس المدينة في ذلك الوقت: "في نهاية المطاف، كلٌّ أراد نصيباً مما كان يجود به الحريري".
كانت هنالك عملية مماثلة تجري في أماكن أخرى، حيث راحت الميليشيات تعمل على بناء علاقات مع البلديات في مناطق نفوذها. ففي صور، المدينة الجنوبية، سلكت حركة أمل - وهي حزب سياسي وُلد قبيل الحرب الأهلية مباشرة وأسّس لنفسه في ما بعد ذراعاً مسلحاً - منحى مشابهاً. يقول أحد أعضاء البلدية الحاليين وعضو في حركة أمل إن الحركة شكّلت، بعد التوغل الإسرائيلي في المدينة عام 1985، "لجنة تطوير صور" التي موّلت إصلاح البنية التحتية. وعلى خطى المجلس الأعلى للمشاريع البلدية الذي أسّسه الحريري، نقلت هذه اللجنة المسؤولية إلى البلدية بعد ذلك.
توطدت علاقات المليشيات بالبلديات واتسعت.
توطدت علاقات الميليشيات بالبلديات واتسعت في قرى البلاد ومدنها، ولمّا وضعت الحرب أوزارها، عززت مجموعة جديدة من القادة من وجودها بتبوئها مكان الدولة المركزية كالمقدّم الرئيسي للمساعدات المالية. اكتسبت تلك الطبقة السياسية الناشئة شعبيتها، وعززت نفوذها في الأقاليم، وأزاحت المنافسين المحتملين من طريقها. غير أن بيئة ما بعد الحرب الأهلية احتاجت تكتيكات جديدة للحفاظ على ذاك النفوذ في ظلّ ظروف أقل فوضوية، وذلك بالعمل إلى جانب الدولة المركزية لا بدونها. حتى عام 1998، أي بعد نحو عقد من انتهاء الحرب، تأرجحت الفصائل بين تأييد إعادة الانتخابات البلدية ومعارضتها اعتماداً على يقينهم بفوزهم فيها أو عدمه، لكن هذه المماطلة لم تستمر طويلاً.
ومع اقتراب موعد الانتخابات البلدية عام 1998، تدافعت نُخب حقبة الحرب لتقوية شبكات دعمها المحلية بعد أن رأت فيها مفتاحاً لتحقيق النصر في صناديق الاقتراع، فالسيطرة على المناطق عن طريق العنف أو المحسوبية لم يعد كافياً، وكان من المتوقع حينئذ أن يوصل الناس ممثليهم إلى السلطة عبر صناديق الاقتراع، فحتى في مدينة صور التي كانت وما زالت أبرز معاقل حركة أمل، واجهت قيادة الحركة عدم يقين وجودي، وهو ما اعترف به أحد أعضاء البلدية الحاليين بقوله: "لم تكن لدينا أية خبرة أو تجربة. ماذا يريد الناس؟ ما الذي يمكن أن نعدهم به؟ كانت رؤيتنا ضبابية، وكنا ساذجين للغاية".
أسفرت الانتخابات عن نتائج متباينة للطبقة السياسية الصاعدة في لبنان. فقد نال الحريري، رئيس الوزراء حينئذ، تأييد قوائم ناجحة في كلّ من بيروت وصيدا، بينما فازت حركة أمل في صور. في المقابل، مُنِيَ حزب الله، وهو فصيل تشكل خلال الحرب وحرص على إضفاء الطابع المؤسساتي على نفوذه، بهزيمة نكراء في بعلبك، أكبر مدن وادي البقاع. كان حزب الله واثقاً من هيمنته ثقةً حدت به إلى رفض التحالف مع الفصائل الأخرى. بينما اتحدت العائلات المرموقة ضد ما أسمته سياسات الحزب القاسية وخطه الديني المحافظ، وقد نجحت مساعيها في جمع الأصوات بكلفة زهيدة من خلال الطواف على البيوت، ما جعلهم يشكلون أغلبية في المجلس.
غالباً ما يموّل المانحون الأجانب البرامج التي تعد ببناء قدرات مؤسسات الدولة، غير أنهم يتغافلون عن الأسباب الوجودية الكامنة وراء سوء أداء هذه المؤسسات، وهكذا ينتهي الأمر بداعمي لبنان الغربيين إلى دعم نظام معطوب يأملون إصلاحه
أما أعيان حقبة ما قبل الحرب، فقد احتفظوا بالمراكز الحضرية الرئيسية الأخرى، بما في ذلك طرابلس وزحلة. وقد شكلت العائلات التي سيطرت على هذه المناطق قبل الحرب تهديداً وجودياً للقيادة السياسية الناشئة التي رأت في اجتثاث نفوذ الحرس القديم من المناطق التي ظل محتفظاً بنفوذه فيها أمراً لا مناص منه.

الحوكمة واحتجاز الرهائن

واجهت الأحزاب الطائفية التي تبلورت زمن الحرب وبعدها تحديات كتلك التحديات التي واجهت الأنظمة العربية بعد الاستقلال. ففي سوريا والعراق ومصر وغيرها، حَمَت نخبة محدودة ذاتها من المساءلة لوقت طويل من خلال مزيج من سطوة السلاح والتلاعب بمؤسسات الدولة والانتخابات. غير أن النظام الناشئ في لبنان لم يحظَ بالقوة العسكرية ولا بالكفاءة الإدارية ولا بالقدرة المالية لممارسة القمع الوحشي أو الإنفاق ببذخ كما هو الحال في الدول العربية الأخرى. بدلاً من ذلك، استغلت الفصائل اللبنانية سيطرتها على الحكومة المركزية في وضع ضواحي المدن والأرياف أمام خيارات صعبة تتمثل في أن تحصل البلديات التي تؤيد الأحزاب المهيمنة على الحد الأدنى من الرفاه الاجتماعي، في مقابل عزل البلديات الرافضة لذلك فعلياً عن الدولة.
سرعان ما فهمت المدن والقرى المتمردة هذه القواعد الجديدة، فعلى سبيل المثال، دفعت قائمة بعلبك المناهضة لحزب الله ثمناً باهظاً لاستقلالها، حيث ركّز المجلس الجديد على تحسين البنية التحتية العامة على أمل تحويل المدينة إلى مركز سياحي إقليمي، ما استدعى بناء كلّ شيء من مدفن نفايات فعال إلى دورات مياه عامة في كل أرجاء المدينة، وكلها تطلبت موافقة وزارات الدولة وتحويلات مالية من الحكومة المركزية. غير أن بيروت لم تمنح الموافقة على بناء دورات المياه لعدة سنوات دون أن تفصح عن السبب، وتعثرت خطط حفر مدافن صحية للنفايات بتمويل من البنك الدولي مع تعثر مختلف كيانات الدولة. كما تمّ توزيع أموال صندوق لإعادة الإعمار كان مخصصاً في الأصل لمحافظة بعلبك-الهرمل، على كافة البلديات الكبرى باستثناء بعلبك عاصمة المحافظة. وقال أحد أعضاء البلدية الذين خدموا في ذلك الوقت: "كان حزب الله يرسل لنا رسالة مفادها: أنتم لم تنتخبوا مرشحينا، ولذا لن تحصلوا على أي شيء مما تريدون".
وبذا راح فصيل سياسي ناشئ يقوّض شرعية سماسرة السلطة الذين سادوا حقبة ما قبل الحرب في المدينة، ومع اقتراب موعد انتخابات 2004، وجد مجلس بعلبك نفسه في موقف غريب حين حقق فائضاً كبيراً في الميزانية، لكنه عجز عن الحصول على موافقة الدولة المركزية على إنفاق الأموال. في حين قام حزب الله بتحديث نهجه وراح يتقرب من أكثر الأجنحة تعاطفاً في عائلات بعلبك البارزة، وقد وضعت محاولات الاستمالة تلك الأطراف الموالية للبلدية في مواجهة مع أولئك المتحالفين مع الحزب، ما أدى إلى انقسام الكثير من العائلات الكبيرة إلى نصفين، تمكن حزب الله من الفوز بجميع مقاعد المجلس من خلال هذه الاستراتيجية، ما مهّد الطريق للانتصارات في كل السباقات منذ ذلك الحين. تحسنت حوكمة المدينة، وإن كان ذلك التحسن طفيفاً.
حزب الله: مدينتكم لن تؤدي وظائفها من دوننا.
ومن المثير للانتباه، أن حزب الله اعتمد في نجاحه في بعلبك بشكل قليل فقط على قوته المسلحة التي غالباً ما اقترنت به. على عكس ذلك، وعلى غرار نظرائه من الفصائل الأخرى، استغلّ حزب الله قدرته على الوصول إلى داخل الحكومة الوطنية لضمان الاعتراف به كالضامن الوحيد لرفاهية المدينة. وقد حملت استراتيجيته في طياتها تهديداً ضمنياً استمرّ حتى الانتخابات التالية، تهديداً مفاده أنّ مدينتكم لن تؤدي وظائفها من دوننا.

البلديات كأداة للانتفاع

إنّ تهديداً كهذا، أشبه بإنذار نهائي، بالغ الأهمية لفهم سبب فشل المنافسين غير المنتسبين للمؤسسة السياسية في كسب الدعم الشعبي الواسع حتى الآن. على النقيض من ذلك، كثيراً ما تمكنت الأحزاب الطائفية المهيمنة في السنوات الأخيرة من الحصول على عروض قوية للولاء لها من ذات الأشخاص الذين دأبت على إهمالهم. ولأنها تفتقر إلى المنافسين، ذهبت هذه الأحزاب أبعد من ذلك، مستغلة سلطتها في إثراء شخصي فاحش. ففي حين لا يُعتبر استغلال الموارد العامة، لتحقيق مكاسب خاصة، ممارسةً خاصةً بلبنان أو الشرق الأوسط دون غيرهما، قامت الدوائر الداخلية في الأحزاب اللبنانية بابتكار طرق متطورة للغاية تضمن استمرارها في هذا السلوك.
في الحقيقة، يشكل الحكم المحلي أداة أساسية في اختلاس الموارد العامة. يتطلب حصول البلدية على تمويل من الدولة قبول مستوى معين من المحسوبية، وغالباً ما يكون ذلك على شكل عقود يتم منحها لشركات خاصة يسيطر عليها أفراد مرتبطون بالنخب السياسية. إنّ هذه العقود تشكل آلية انتفاع من الموارد العامة بشكل هادئ وغير مباشر، وغالباً قانوني. بهذا تتحكم هذه الآلية بالتنمية المحلية، وتتم إدارتها من قبل شركات تتمتع بخبرات حقيقية أو افتراضية، كما أنها مرتبطة بجيوب النخب الحاكمة.
تقدم مدينة صيدا مثالاً واضحاً على ذلك، حيث بلغت أزمة إدارة النفايات المستمرة منذ عقود ذروتها في منتصف العقد الأول من القرن الحالي مع تعاظم "جبل قمامة" محليّ بمحاذاة البحر. خشية انهياره، قام المجلس البلدي الذي كان يرأسه حينها أحد خصوم عائلة الحريري بوضع خطط لبناء منشأة جديدة لمعالجة النفايات، لتتعثر الخطة بالإجراءات البيروقراطية الكثيرة. ولكن عندما تولى حليف للحريري منصب رئيس البلدية عقب انتخابات 2010، رفع المجلس الجديد سعر العقد ومَنحَ المناقصة لشركة يقال إنها مرتبطة بعائلة الحريري. في ذلك الوقت، طغى القبول وليس الغضب على حديث سكان مدينة صيدا حول القصة ذائعة الصيت تلك، فقد تمّ القيام بشيء ما، حتى لو بدا أنه تطلب تكاليف باهظة وبتخطيطٍ جرى خلف أبواب موصدة. في الواقع، أُجبر اللبنانيون منذ فترة طويلة على اعتبار هذه الترتيبات ترتيبات بالغة الأهمية للحفاظ على الحد الأدنى من الخدمات على أقلّ تقدير.
رسمت هذه المقايضة ملامح الحكم المحلي في معظم المراكز الحضرية، ففي طرابلس، ثاني أكبر مدينة في البلاد، استغلت عائلة كرامي موقعها في الحكومة المركزية في حقبة ما بعد الاستقلال للسيطرة على تقديم الخدمات الاجتماعية، وخاصة الرعاية الصحية. لكن بعد انتهاء الحرب الأهلية، لم يعد باستطاعة صلاتها بالدولة منافسة روّاد الأعمال الجدد مثل نجيب ميقاتي ومحمد الصفدي ورفيق الحريري، ولم يستطع أيّ زعيم ترسيخ هيمنته بمفرده، ما جعل سياسة المدينة تغرق في حالة من فوضى حلت محل إحسانٍ مصحوب بالانتفاع.
يمرّ طريق التقدم عبر الولاء للرعاة السياسيين العريقين.
في الانتخابات البلدية الأخيرة التي جرت في عام 2016، قدّم أشرف ريفي، وهو شخص من خارج النخبة نسبياً، قائمة رابحة ضد قائمة مدعومة بعدد كبير من لاعبي السلطة المحليين، بمن فيهم فيصل كرامي (نجل رئيس وزراء سابق من طرابلس)، ونجيب ميقاتي (رئيس وزراء سابق)، وسعد الحريري (نجل رفيق الحريري، ورئيس وزراء آخر). شغل ريفي لسنوات خلتْ منصبَ المدير العام لقوى الأمن الداخلي في لبنان قبل أن يصبح وزيراً للعدل، وهو منصب استقال منه أوائل عام 2016، ما أكسبه شعبية ما باعتبار ما فعله بادرة مناهضة للمؤسسة القائمة، وقد رأى ريفي في السيطرة على طرابلس منطلقاً له نحو السلطة الوطنية.
غير أن المجلس البلدي الذي عُني ريفي باختياره شخصياً سرعان ما وجد نفسه مكبلاً من جهات عدة. حافظ العديد من أعضائه على روابط شخصية مع رعاة المدينة التقليديين الذين يشاع على نطاق واسع بأنهم أسهموا في عرقلة حتى العمليات الأساسية، فقللوا بالتالي من حجم ريفي. وحتى لما توصلت البلدية ذاتها إلى إجماع بشأن قضايا الحكم اليومي، قوبلت طلباتها للحصول على موافقة الوزارات بالتجاهل أو التأخير إلى أجل غير مسمى، ويرى عضو آخر في البلدية أن لكلا الديناميتين السبب الرئيسي ذاته، ويقول: "لقد صفع ريفي النخب السنية في وجهها، فردوا له الصفعة. ويتذكّر ذات العضو كيف طُلب منه سحب اقتراحات خاصة برسم السياسات، وهي اقتراحات كان قد درسها جيداً، ويقول: دنا مني بعض السياسيين من طرابلس وقالوا: إن كانت لديك فكرة جيدة، فلا تقلها بصوت عالٍ، فإننا نريد الانتقام".
من وجهة نظر المؤسسة، سرعان ما آتت تلك التكتيكات أُكلها. ففي غضون سنة من انتخابها، غرقت البلدية في الفوضى، وساد اجتماعاتها الصراخُ في كثير من الأحيان. تلاشت آفاق ريفي السياسية الوطنية بعد حملة غير ناجحة في الانتخابات البرلمانية عام 2018. في تموز/ يوليو 2019، تم إقصاء رئيس البلدية ونائبه اللذين عينهما ريفي في تصويت لحجب الثقة، وما لم تغيّر الاحتجاجات الحالية من قواعد اللعبة، فإن من سيبقى من أعضاء المجلس داخلون في صراع مع نتيجة مفروغ منها، نتيجة مفادها أن الطريق إلى التقدم في السياسة اللبنانية المحلية يمرّ عبر الولاء للرعاة السياسيين العريقين.

السعي للإصلاح

أدى فشل الدولة اللبنانية الذريع في توفير الرفاهية الأساسية إلى محاولاتٍ متكررة وتائهة للإصلاح. بينما يصوغ البرلمان هيئة تشريعية تقدمية بشكل دوري، كهيئةٍ حول اللامركزية الإدارية على سبيل المثال، إلا أنه يضع القوانين على رفّ الإهمال أو ببساطة يخفق في تنفيذها. غالباً ما يموّل المانحون الأجانب البرامج التي تعد ببناء قدرات مؤسسات الدولة، غير أنهم يتغافلون عن الأسباب الوجودية الكامنة وراء سوء أداء هذه المؤسسات، وهكذا ينتهي الأمر بداعمي لبنان الغربيين إلى دعم نظام معطوب يأملون إصلاحه.
وكذلك أمضت البلديات في جميع أنحاء لبنان سنوات تتولى تنفيذ مشروعات تنموية فاشلة لم يتعلم أحد منها على ما يبدو. من الأمثلة المأساوية على ذلك، قيام ثلاثة مانحين غربيين منفصلين - أمريكيين وألمان وكنديين - بتمويل ثلاثة مشاريع منفصلة لتجديد الحديقة العامة في طرابلس. فأعادوا رصف الأرصفة، وغرسوا الأشجار، وبنوا المقاعد. وبدلاً من التنسيق مع الحكومة المحلية أو أفراد المجتمع، عمل المنفذون لهذه المشاريع بشكل مستقل، وأعادوا تسليم الإدارة المستقبلية للبلدية مرة أخرى. تقاعست البلدية عن الحفاظ على الموقع الذي تهشمت مقاعده وأُهملت أرضه. زعم مراقب محلي أن رئيس البلدية تكلم مازحاً عن نيته تجريف الموقع. وبهذه الطريقة، يجسد قسم صغير من المدينة إهمال الحكومات المحلية للمجالات التي ينبغي أن تصبّ فيها جلّ اهتمامها.
هذه الممارسات الخاطئة متجذرة إلى درجة أن كل الجهود لإصلاح النظام باءت بالفشل. استذكر مؤسس إحدى المنظمات غير الحكومية، ومقرها في بيروت، فشل مشروعٍ كان من أهدافه تعزيز شفافية البلدية عبر مناشدة أكبر المجالس البلدية في البلاد بنشر سياساتها وميزانياتها رقمياً. نسف أحد أعضاء المجلس في إحدى اجتماعات مجلس مدينة صيدا تلك المبادرة بنقدٍ أدان فيه نفسه قبل غيره، وفي ذلك يقول مدير المنظمة غير الحكومية واصفاً المشهد: "أصرّ ذاك العضو على أن تلك الشفافية غير مجدية، لأنّ الناس سيعرفون حينها مَن حصل على المال ومَن لم يحصل عليه". إن هذه الأمثلة شائعة للغاية، إلى درجة أن غالبية اللبنانيين قادرون على الاستشهاد بحالاتهم الخاصة، وهذا ما يفسّر سبب وقوع حفنة الوعود الحكومية الأخيرة على آذانٍ صماء. لقد تمّ تكبيل المجتمع اللبناني بقيادة سياسية يتوجب عليها اليوم مصارعة عقود من الغضب المكبوت.
إن الحُكم القائم على فعل لا شيء لن يثمر شيئاً سوى إثارة المزيد من الغضب.
بدا أن الطبقة الحاكمة في لبنان قد أتقنت فن اللاحكم – وهو منهج حكم تسلل إلى المنطقة العربية. في أعقاب ثورات 2011، تولت النخب في سوريا والعراق ومصر وليبيا وأماكن أخرى دوراً ثانوياً في رسم السياسات وتقديم الخدمات، دوراً تتحد فيه الوجوه القديمة والجديدة لتحقيق هدف يتيم يتلخص في البقاء في السلطة بأقل كلفة ممكنة وعلى حساب أية تطلعات نحو تحقيق رخاء أوسع، بيد أن المجتمع اللبناني يرسل رسالةً يبدو أن صداها يجوب العالمَ بأسره، رسالةً مفادها: إن الحُكم القائم على فعل لا شيء لن يثمر شيئاً سوى إثارة المزيد من الغضب.
*هذا الموضوع من إنتاج شبكة سينابس Synaps ونُشر في 23 تشرين أول/ أكتوبر 2019، وينشره رصيف22 في إطار تعاون بين المؤسستين.
Previous Post
Next Post

About Author

0 comments: