لعبة صفرية!
لماذا لجأت روسيا لتسلم مدفوعات الغاز لأوروبا بالروبل؟
السبت، 09 أبريل، 2022
أقرت روسيا تسلم المدفوعات الخاصة بالغاز الطبيعي بالروبل من "الدول غير الصديقة"، بما في ذلك الدول الأوروبية، وأعلنت عن آلية تنفيذ ذلك القرار اعتباراً من 1 أبريل 2022. ويأتي ذلك القرار في ظل سعي روسيا نحو تعزيز قيمة عملتها الوطنية، والضغط على الدول الأوروبية باستخدام سلاح الطاقة كرد فعل على فرض الغرب عقوبات اقتصادية مشددة عليها عقب التدخل العسكري الروسي في أوكرانيا في 24 فبراير.
أسباب رئيسية:
يأتي قرار موسكو بتسلم مدفوعات الغاز بالروبل، كرد على العقوبات الغربية المفروضة على الاقتصاد الروسي، وهو ما يُمكن إيضاحه كما يلي:
1- تعزيز قيمة الروبل: استهدفت روسيا، بشكل رئيس، من قرارها دعم الروبل، وإجبار الدول الأوروبية على شرائه لسداد مدفوعات الغاز الروسي، مما يدعم الطلب عليه ويزيد من قيمته، خاصة أن الروبل قد شهد تراجعات قوية أمام الدولار الأمريكي، نتيجة للحرب الروسية الأوكرانية والعقوبات التي فُرضت على روسيا، فقد تمَّ تداوله عند مستويات 119 روبلاً أمام الدولار الأمريكي في 28 فبراير 2022، قبل أن يتعافى بعد القرار إلى بالغاً قرابة 85 روبلاً لكل دولار، ليستعيد بذلك قيمته السابقة على اندلاع الحرب.
والجدير بالإشارة أن عملتي اليورو والدولار استحوذت بشكل رئيس على مدفوعات الغاز لأوروبا، فوفقاً لبيانات شركة "غازبروم" الروسية، تمَّ سداد نحو 58% من مبيعاتها إلى أوروبا ودول أخرى باليورو، فيما تم سداد 39% منها بالدولار، و3% بالجنيه الاسترليني، وذلك حتى أواخر يناير 2022. وقد استورد الاتحاد الأوروبي 155 مليار متر مكعب من الغاز الطبيعي من روسيا خلال عام 2020، وهو ما يُمثل حوالي 40% من إجمالي واردات الاتحاد الأوروبي من الغاز.
2- حماية بعض المؤسسات من العقوبات: نص مرسوم الكرملين بشأن آلية دفع مدفوعات الغاز الطبيعي بالروبل بداية من 1 أبريل 2022، على قيام المشترين الأجانب بفتح حسابات في "غازبروم بنك" بالروبل، بحيث يقوم البنك بتحويل العملات الأجنبية إلى الروبل في حساب المشترين ثم تحوّل الأموال لصالح الحكومة الروسية.
وبهذا القرار، تجبر موسكو الدول الأوروبية على استثناء البنك من العقوبات الغربية، وهو يعد ثالث أكبر مصرف روسي من حيث حجم الأصول، ويصل حجم عملائه إلى 5 ملايين عميل.
3- الضغط على أوروبا: تشير بعض التقديرات إلى أن روسيا تحاول من قرارها الالتفاف على العقوبات الاقتصادية المفروضة عليها، واستخدام الغاز الطبيعي كسلاح للضغط على الدول الأوروبية، وإثنائها عن مواقفها السياسية الصارمة تجاهها.
كما تستهدف آلية الدفع بالروبل، سالفة الذكر، منع الحكومات الغربية من محاولة مصادرة المدفوعات بالعملة الأجنبية أو الحسابات التي تمر من خلالها، وفق تصريح سابق للرئيس الروسي فلاديمير بوتين.
التداعيات المحتملة:
من المتوقع أن يفرض القرار الخاص بمدفوعات الغاز الطبيعي عدداً من التداعيات على العملة الروسية بشكل خاص، والاقتصاد الروسي بشكل عام، وذلك على النحو التالي:
1- تحسُّن أداء الروبل: ساهم قرار استلام المدفوعات بالروبل في تحسن سعر صرف الروبل، وتعويض بعض خسائره مقابل الدولار، حيث سجل 84 روبلاً مقابل الدولار الأمريكي بنهاية مارس 2022 وفقاً لبيانات البنك المركزي الروسي.
ويرى بعض الخبراء ضرورة النظر بحذر لتحسُّن أداء العملة الروسية، إذ أشاروا إلى أن هذا التحسن يُعد هشاً وغير مستدام، ومدفوعاً بالمعنويات المرتفعة بعد القرار، أكثر من تحسن الاقتصاد بشكل حقيقي.
ويغفل الرأي السابق حقيقة أن سعر صرف الروبل تأثر إيجاباً أيضاً بالقرارات الأخرى التي اتخذها البنك المركزي الروسي مؤخراً، والتي تضمنت وضع قيود أمام الأفراد لشراء شراء العملات الصعبة، ووضع حد للسحب من حسابات العملات الأجنبية، ورفع أسعار الفائدة، وذلك لدفع المواطنين للاحتفاظ بالعملة الروسية، بالإضافة إلى تقييد الشركات الأجنبية من سحب استثماراتها أو أصولها من روسيا.
2- توسيع نطاق تطبيق القرار: تُخطط روسيا للتعامل بالروبل أو بعملات الدول الأخرى المحلية في سداد المدفوعات الخاصة بالصادرات الروسية الأخرى من السلع الزراعية والمواد الخام. وتشير بعض الترجيحات إلى أن مصدّري الحبوب الروس مستعدون للتحول إلى الروبل في تسوية المعاملات الخارجية، وهو بذلك يحرر معاملاته التجارية المقومة بالدولار من المرور بالبنوك الأمريكية.
وعلى الرغم من أن هذا القرار يعني أن روسيا ستفقد مصدراً رئيسياً للعملات الأجنبية، فإن هذا لن ينطبق على مدفوعات الغاز الأوروبية، إذ إن الدول الأوروبية سوف تسلم اليورو أو الدولار لبنك غازبروم الروسي لشراء الروبل، وبالتالي لن تفقد النقود الأجنبية الكافية لدفع ثمن الواردات، كما أن معاملتها التجارية مع الدول الأخرى سوف تتم بالعملات المحلية، كما هي الحال مع الهند، على سبيل المثال.
3- فك الارتباط بالدولار: يمهد قرار الرئيس الروسي فلاديمير بوتين، على المدى الطويل، لتطبيق استراتيجية روسيا الخاصة بفك ارتباطها بالدولار، ويأتي ذلك اتساقاً مع استمرار روسيا في محاولاتها لتعزيز استخدام عملتها بدلاً من الدولار في سداد المدفوعات مع شركائها التجاريين كالصين والهند وتركيا.
ويلاحظ أن هذا الموقف سوف يؤثر على مكانة الدولار على المدى الطويل، إذ إن جزءاً كبيراً من قوة الدولار مرتبط بتسعير النفط والغاز به عالمياً كما أن حركة التجارة العالمية مرتبطة بالدولار، ودخول منافس للدولار سوار الروبل أو اليوان الصيني يعني تراجع لمكانة دولار كعملة احتياطي دولية، والتي شهدت بالفعل تراجعاً من حوالي 70% إلى حوالي 60% على مدار العشرين عاماً الماضية. وفي حالة حدوث هذا التراجع، فإن قدرة واشنطن على توظيف النظام المالي العالمي لفرض عقوبات سوف تتراجع.
وفي هذا الصدد، تدرس الحكومة الهندية اقتراحاً قدمته روسيا مؤخراً بشأن استخدام نظام التحويلات الروسي "إس بي إي إس" (SPFS)، بدلاً من السويفت، لإتمام المدفوعات الثنائية، واستخدام العملات الوطنية في الدفع.
رفض أوروبي:
يواجه قرار روسيا بشأن سداد مدفوعات الغاز الطبيعي بالروبل عدداً من العقبات، خاصة في ظل الإجراءات التي بدأت أوروبا في اتخاذها لعرقلة القرار الروسي، بالنظر إلى الآتي:
1- رفض غربي واسع: اتسع نطاق الرفض الغربي للآلية الروسية الجديدة، وأعلن وزير الاقتصاد الألماني، روبرت هابيك، رفض دول مجموعة السبع قرار موسكو، ويأتي ذلك نظراً لانتهاكه شروط العقد، التي تقضي بتسوية العقود باليورو والدولار.
وعلى الرغم من ذلك، أبدت بعض الدول الأوروبية، مثل سلوفاكيا، استعدادها لقبول الدفع بالدولار، ضماناً لاستمرار تدفقات الغاز الروسي.
2- البحث عن مصادر أخرى: تسعى أوروبا جاهدة لتأمين مصادر طاقة إضافية؛ لخفض اعتمادها على الطاقة الروسية. واقترحت المفوضية الأوروبية خطة جديدة لتنويع إمدادات الوقود الأحفوري في أوروبا بعيداً عن روسيا، جنباً إلى جنب مع تسريع التحول إلى الطاقة المتجددة.
ويعتزم الاتحاد الأوروبي خفض اعتماده على الغاز الروسي بمقدار الثلثين بحلول نهاية العام، وإن كان تحقيق ذلك غير ممكن من الناحية العملية.
3- اتفاقات فورية بديلة: اتفقت الولايات المتحدة الأمريكية والاتحاد الأوروبي على توفير 15 مليار متر مكعب إضافي من الغاز الطبيعي المسال لأوروبا هذا العام. كما أقرت كندا إمكانية زيادة إنتاجها من النفط والغاز لمساعدة الدول الأوروبية في خفض الاعتماد على مصادر الطاقة من روسيا. كما أعلنت ألمانيا عن سعيها للتفاوض مع بعض منتجي الشرق الأوسط بهدف استكشاف إمكان الحصول على إمدادات الغاز الطبيعي المسال مستقبلاً.
4- تفعيل خطط الطوارئ: لجأت بعض الدول الأوروبية ومنها ألمانيا والنمسا إلى تفعيل خطة طارئة من المستوى الأول؛ لمواجهة التهديد بتوقف الإمدادات الروسية، والتي تقضي بمراقبة إمدادات ومخزونات الغاز فقط من دون اتخاذ أي قرارات، أما الخطوات التالية، فسوف تتضمن تقنين الاستهلاك، وهو ما يعني إغلاق بعض قطاعات الاقتصاد عن العمل، بما يتركه ذلك من تداعيات سلبية على الاقتصاد الأوروبي.
مرونة التطبيق:
على الرغم من المواقف السابقة، فإن أغلب التقديرات تشير إلى أن كل من الجانبين الروسي والأوروبي سيحرصان على تبني مرونة في تطبيق وتنفيذ الآلية الروسية الجديدة، وذلك في ضوء التالي:
1- صعوبات الإحلال: يلاحظ أن محاولة إيجاد مصادر بديلة للغاز الروسي يمثل تحدياً لوجستياً كبيراً للاتحاد الأوروبي في الأجل القصير على أقل تقدير، خاصة في ظل قرب الإمدادات الروسية من دول الاتحاد، وتوافر البنية التحتية اللازمة لتصدير الغاز.
كما أنه من الصعوبة أمام منتجي الغاز الرئيسيين في العالم تعويض كامل الإمدادات الروسية، في ظل محدودية فائض الإنتاج، وارتباطهم بعقود طويلة الأجل مع عملائهم في آسيا. وسيبقى ارتباط الاتحاد الأوروبي بموارد الطاقة الروسية حتى عام 2027، وفق المفوضية الأوروبية.
وسوف تدفع الاعتبارات السابقة بعض الدول الأوروبية لقبول الشرط الروسي تدريجياً، من حيث فتح حسابات بالروبل ببنك غاز بروم، ثم تسوية المعاملات بالروبل في المستقبل، إذا ما طال أمد الصراع الأوكراني.
2- استمرار تدفقات الغاز: أبدت موسكو مرونة في تطبيق الآلية الجديدة، حيث إن فتح حساب بالروبل يعد خطوة رمزية وانتقالية نحو تسوية تجارة الطاقة بالعملة الروسية في الأمد الطويل، وهذا ما يسهل تدفق الغاز للجانب الأوروبي حالياً. وصرح الرئيس الروسي بوتين: "روسيا تهدف إلى مواصلة إمداد العملاء الأوروبيين بالغاز، وتقدّر سمعتها التجارية".
وأوضح الكرملين أن التحول للدفع بالروبل لا يجب أن يؤدي لانهيار شروط العقود مع المستوردين الأوروبيين. ويأتي الموقف الروسي مدفوعاً بالحاجة بطبيعة الحال لعائدات تصدير الغاز لأوروبا، مع علم موسكو أنه من الصعوبة تحويل إمدادات الغاز للقارة الأوروبية لعملاء آخرين، مثل الصين، في الأمد القصير، كما أن أوروبا لن تستطيع التخلص من الاعتماد على الغاز الروسي في الأجل القصير كذلك.
وفي الختام، يُمكن القول إن موسكو قد تتراخى، على الأقل في الأجل القصير، في تطبيق إجرائها الصارم بتطبيق مدفوعات الغاز بالروبل، في ظل العلاقة الاعتمادية الواسعة بين الجانبين الروسي والأوروبي، حيث تحتاج موسكو بشدة لعائدات الغاز القادمة من أوروبا، في حين لن تتمكن القارة من فك ارتباطها بمصادر الطاقة الروسية بشكل كامل في المستقبل القريب.
0 comments: